بين رحلتين أو ثلاث

2023.09.03 | 06:10 دمشق

بين رحلتين أو ثلاث
+A
حجم الخط
-A

شاهدتُ بالأمس مقابلة أجرتها إحدى القنوات في الشبكة العنكبوتية، وما أكثرها، مع أحد رواد الفضاء السوريين وطئت قدماه جفن الردى وهو غير نائم، وما أكثر رواد الفضاء الذين وطئوا أرض تدمر أو دفنوا فيها، التي قال المعري في مثلها: خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْـ أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ، وأية أجساد، فهي ليست أجسادا قضت في السوق بيعًا وشراءً، وإنما أجساد دفنت في أدنى الأرض، فصارت بها أعلاها.

كما شاهدت عشرات الشهادات للناجين من سجن تدمر الرهيب، وشعرت بالرعب من بعضها، وتعلمت من بعضها، فكل إنسان رحلة، وقد تكون الرحلة في المكان أو في الزمان، أو فيهما معا.

 اعتقل محمد برو وهو فتى، دون السن القانونية، وقضى ثلاثة عشر سنة من عمره وهو يتسلق قمة الجبل من غير متاع، أو قارورات أوكسجين، أو خرائط، أو عتال من قبيلة الشيربا يحمل متاع المتسلقين كما في رحلات متسلقي قمة إيفرست، الذين مات مئات منهم لا يحدوهم سوى حب المغامرة.

إنَّ "لكل نظام سياسي كعبة"، وكعبة النظام الأسدي هي الزنزانة، فهي صومعته التي يتعبد فيها ويستعبد بها الشعب السوري

وهو محظوظ بمعايير الأهوال السورية، فبعض الفتيان المعتقلين لم يعد من مغرب الشمس إلا بعد ثلاث وعشرين سنة من الغياب، وبعض أكمل ثلاث عقود، أما أكثرهم، فقد استشهد وبلغ أعلى قمة في السماء. قضى محمد برو نصفها في تدمر، ونصفها الآخر في صيدنايا، وعاد من رحلته الملحمية، ليروي لنا ما قاساه وعاناه، وهي رحلات لم يعد بمثلها رحالة مثل ماركو بولو أو ابن بطوطة أو أي مستلق من مستلقي قمة هيمالايا أو مرتفعات وذرينغ.  قال في الشهادة: إنَّ " لكل نظام سياسي كعبة"، وكعبة النظام الأسدي هي الزنزانة، فهي صومعته التي يتعبد فيها ويستعبد بها الشعب السوري. وذكر أيضًا أنَّ الأقدار أكرمته بأن وقعت عليه القرعة مرّة وبسم له السعد فأتيح له الخروج إلى حديقة السجن الخلفية، فخرج حافيًا مع أقرانه من المعتقلين، لإحضار المؤون، فشمّ الهواء الحر، ورأى السماء، وكاد أن يلمسها بيده، ومسّ بأخمصي قدميه الحافيتين تراب الأرض، فكأنه في الوادي المقدس طوى. ذكر أيضًا أنَّ الأسد لو سجنهم في علبة حديدية أو في قمقم، كما سجن مارد حكاية ألف ليلة وليلة، لكانوا له من الشاكرين، والقمقم عقوبة منكرة، يضرب بها المثل في النكير والعقاب عادة، لكن سجاني الأسد كانوا يتلذذون بالقتل والتعذيب والإهانة، فالتعذيب والقتل وردهم اليومي، وبه يتقربون إلى سادتهم، أو يتغلبون على السأم.

سمعنا عن عشرات الجند الأميركيين العائدين من أفغانستان الذين انتحروا، بل إنَّ الرئيس الأميركي طفح به الكيل، وهو يبحث عن ذريعة للانسحاب منها، فأعلن للشعب الأميركي عذره للخروج منها، وصرّح إن ثمانية عشر جنديًا من الجند العائدين من أفغانستان ينتحر شهريًا. لم نسمع قط بسجان سوري انتحر، اللهم إلا سجانين اثنين، هما غازي كنعان ومحمود الزعبي، وهما مثالان يضربان للتندر في أدبيات المعارضة، بطريقة انتحارهما، حتى شاعت عبارة: "الطريقة السورية في الانتحار"، وهي الانتحار بثلاث رصاصات في الرأس، وهي مخصوصة برجال النظام وحصر عليهم.

تروى أخبار الحاجّين إلى قمة هيمالايا، التي غدت مقدسة تذكر أسماء متسلقيها في الأخبار، ونال أول من ارتقاها وساما رفيعا من ملكة بريطانيا في يوم تتويجها، وحظوا بالشهرة، وهي رحلات شحيحة المضامين، ومخاطرها طبيعية؛ هي البرد ونقص الأوكسجين، ويمكن التغلب عليها بالاستعداد لها، بينما تهمل أخبار متسلقي قمة الحرية في سوريا وبقية البلاد العربية، فأبطالها مجهولون، مغمورون. مع إن رحلة مستلقي قمة الحرية مثيرة ومترعة بالكفاح والصبر والمعرفة والبطولة وليست مثل رحلات المغامرات المترفة.

إن النظام السوري اعتقل عشرات آلاف السوريين، شيبا وشبانا، ذكرانا وإناثا، فأصيبت رحلة المعتقل بما أصيبت به العملة السوري، وهي آفة التضخم، فقد كثر المعتلقون السوريون وتشابهت آلامهم

قد لا تستحسن المقارنة  بين قمتي إيفرست وتدمر، وإن كان ما يجمع بينهما هو الرحلة، وينال متسلقو قمة همالايا المغامرون الشهرة، أقلها ظهور أسمائهم في الأخبار العالمية، وفي سجلات غينيس، وهي مغامرات تطوعية وفدائية، قد تنتهي بالموت، فهي محفوفة بالمخاطر، لكن ما أوهن رحلة السجين السوري وأزرى بها، وهي رحلة ملحمية، إن النظام السوري اعتقل عشرات آلاف السوريين، شيبا وشبانا، ذكرانا وإناثا، فأصيبت رحلة المعتقل بما أصيبت به العملة السوري، وهي آفة التضخم، فقد كثر المعتلقون السوريون وتشابهت آلامهم، حتى بات المعتقل بضع سنين يخجل من المعتقل عقودا أحقابا، بل ما لبث السوريون الناجون من الهلاك في السجون، والذين لم نعرفهم إلا بعد ثورة المعلومات، أن  تكّبدوا هم وأهليهم، آلام رحلات عظيمة عبر الغابات والبحار إلى المنافي، هربا من بطش طاغية، شعاره: البقاء إلى الأبد في قصر الحكم، رافضا الرحلة والرحيل.