بين اللوبي العولمي والشعوب المقهورة وندية الشرق

2024.02.11 | 06:27 دمشق

بين اللوبي العولمي والشعوب المقهورة وندية الشرق
+A
حجم الخط
-A

يقول المناضل التحرري الإفريقي "كوامي نكروما" في كتابه -الاستعمار الجديد آخر مراحل الإمبريالية- عام 1966م  "إن جوهر الاستعمار الجديد هو استقلال نظري للبلاد؛ التي طبق نظامه فيها وسيادة دولية بكل مظاهرها، أما نظامها الاقتصادي ودفتها السياسية فتوجه من الخارج"، يبدو هذا القول البسيط مفسرا لمفهوم الدولة الوظيفية، والأنظمة الوظيفية والشعوب التي يتم الاشتغال على تمزيقها؛ بما يتناسب مع تلك الوظيفية المرسومة؛ وتدجينها في اصطفافات مادون وطنية برعاية وحماية قوانين دولية، يظهر ذلك في مواقف الأنظمة العربية من الحرب على فلسطين وقد شاءت الأقدار أن يكون الكيان الصهيوني المجال الوحيد الذي تتفق على حمايته قوى الشرق والغرب، ورغم اعتقاد "نكروما" أن الإمبريالية آخر مراحل الاستعمار حينها؛ لكن أحدا بعده لم يطرح مرحلة جديدة، وقد تكون المرحلة الأخيرة وإن طالت وتغيرت ملامحها حتى أصبح نفر من الشعوب المستعمرة جزءا مهما من أدواتها بعلم أو بغير علم.

مما سلف وبعد التمحيص في الموقف الرسمي الغربي من ثورات الربيع العربي، نجد أن أي اعتقاد لابد وأن ينطلق من مسلمة أن الساحة العربية ليست إلا مجالا إمبراطوريا للهيمنة؛ ولا يمكن أن تترك حرة في تفاعلاتها مثلما لم تترك حرة عند جلاء الاستعمار، بعد فرضه أنماطا للدولة وحكومات عسكرية في شتى بلدان المشرق، ما يعني أن الثورات التي خاضتها شعوب الربيع العربي كانت ضد نظام عالمي وليس ضد أنظمة وظيفية خادمة، وأن القيم الإنسانية بمدلولها السياسي ومؤسساتها حكر على الغرب فقط.

نحن شعوب محتلة وكل احتلال يفرض حالة مقاومة، والشعوب المغتصبة لا تمتلك سوى رأسمالها الرمزي في المقاومة وسمات مجتمعاتها وعاداتها وتقاليدها ودينها كرصيد أخير

من نقطة كهذه لابد وأن تبدأ هذه الشعوب المستعَمرة التفكير في ترتيب أولوياتها ومسلماتها، وعلينا أن نواجه أنفسنا، نحن شعوب محتلة وكل احتلال يفرض حالة مقاومة، والشعوب المغتصبة لا تمتلك سوى رأسمالها الرمزي في المقاومة وسمات مجتمعاتها وعاداتها وتقاليدها ودينها كرصيد أخير، لا بد وأن تكون أكثر التصاقا بقيمها ومقدساتها، أو الأكثر حساسية في إرثها وتاريخها، وهذا ما يشير إليه صمود شعب غزة والمقاومة الفلسطينية، وإن أي مشروع لا يأخذ بهذه المسلمات وهذه المبادئ ويتبنى رؤية دخيلة – خارج قيم الحق والعدل الواسعة-، وتتعارض مع مسلمات شعوب الشرق وقيمه الدينية والاجتماعية الكبرى، لابد وأن يكون مشروعا تغريبيا مفتعلا أو مزروعا في تربة مجتمعاتنا لإفسادها.

في غمرة طروح العولمة وتحرير الاقتصاد، وحيتان الاقتصاد وإمبراطوريات الإعلام؛ التي بدت واضحة في مستوى الترويج لقيم محددة والتلبس بها؛ بنفس الحين الذي تدعم فيه قوى إرهاب عالمية، وتتحالف الدول حتى في نزع آخر كسرة خبز كانت ترسلها وفقا لبرامج أممية محايدة كمنظمة الأونروا لخنق فلسطين، ناهيك عن الأسلحة المحرمة حتى ليبدو أن الأسلحة كلها محرمة حتى السكاكين بين تلك الدول، في حين كل الأسلحة مطروحة للبيع في سوق الحرب على كل عدو لمصلحة غربية؛ بعد البدء بتسميته إرهابا، أليس من حقنا أن ندافع عن مصالحنا ونحارب الآخرين على مصالحهم ونصفهم بالإرهاب؟

في جلسة مع معلمي الماستر الألماني في أكاديمية تعليمية قل شأنها في العلم وعلا شأنها في سوق العمل؛ سألته في خضم الحديث عن ثيمة الديمقراطية والحريات؛ عن قناعته بوجود حرية وديمقراطية حقيقية في ألمانيا أو العالم الغربي؛ خصوصا أمام حالة الترويج للجندر والشذوذ وغيره؟ فأجاب هناك لوبي دولي عالمي مركزي لا نستطيع أن نخرج من ربقته؛ شكل نسقا يحكم كل الهيئات الحاكمة؛ وصار مقياسا لقدرة أي فرد أو هيئة حكم غربية في الاتساق مع تلك الرؤية، ولا تملك الشعوب تغيير شيء، وكل ما أستطيعه أن أحاول النجاة بابني من التلوث بالشذوذ مما قد يعلمه آباء آخرون.

إذن والحال هذه فيما لو بحثنا عن رؤية مغايرة أو كاشفة، أو تقوم مقام الندية الكاشفة الفاضحة، والداعية إلى تمرد؛ لابد وأن تبدأ من كشف معرفي وتعرية لما آلت إليه شؤون الحضارة والحياة والشعوب برمتها في الغرب، وهو ما يقودنا إلى أن الغرب غرق في أنساقه ووسائط هيمنته، ولا يمكن لشعوبه أن تنجز تغييرا جوهريا؛ بالرغم من أنها قد تغير شيئا في مستوى الحمل والإجهاض والضرائب، لكنها لن ترقى إلى مستوى الدفاع عن الأخلاق، فالغرب قد قطع شوطا في القطع مع الأخلاق برمتها والقيم برمتها، عبر قيم الاقتصاد والاستهلاك واستبدال الكثير من الحاجات بالرغبات الغريزية وصناعتها؛ في خضم عصر أتمتة الإنسان؛ وبرمجته ليكون "روبوت" متحكما به في شتى جوانبه، هنا يتضح أن لا قيمة لكشف معرفي يكتشفه فيلسوف غربي أو مفكر؛ دون أن يكون له كتلة تتبناه وتحمله وتشيعه وتروج لفكره، أو كتلة سياسية تعتنقه في ظل غياب الحركات الاجتماعية المختلفة والمتنوعة بناء على قيم وأخلاق معينة دون أخرى.

هنا يظهر الشرق بنديته بعاداته وتقاليده وأديانه حجرة عصية رغم كل ما يحيط به من غياب الفكرة والمنهج ودراساته المستقلة

ما يعني أن شتى أفكار الفلاسفة الغربيين قد أصبحت في المجال المعرفي والاجتماعي مثل زوبعة في فنجان، في ضجيج الآلة الإعلامية الضخمة؛ وتحول الشعب أي شعب غربي إلى شتات جزر منفصلة، قد تحوي قطيعا، أو جماعات أو أفراد؛ حتى أن الجماعة بتعريفاتها البسيطة قد تحولت إلى نقابات مرتبطة بالعمل كنقابات عمال الطرق، وسككك الحديد وما شابه؛ أي أنها دخلت حيز العمالة وارتبطت به، ولم تعد حركة اجتماعية تستهدف تغييرا اجتماعيا ذا منحى إنساني عام.

هنا يظهر الشرق بنديته بعاداته وتقاليده وأديانه حجرة عصية رغم كل ما يحيط به من غياب الفكرة والمنهج ودراساته المستقلة، وأن حملة العدوان على الشرق ليست مجرد لعبة مصالح دولة هنا وأخرى هناك بل جزءا من سياسة هيمنة وجدت فيه مجالا عصيا على الخضوع ويحمل بذور الصمود بوجه أعتى أسلحته، وأن كل مشروع مفروض وقيمة مزدوجة المعيار بين شرق وغرب، ليست سوى خطة لتغييره ومسخه ليتحول إلى سوق للأفكار بعد غزوه في سوق الاستهلاك السلعي، وتجنيده في حروب الوكالة.   

في حين تبدو فئات كثيرة من الشعوب الغربية خارجة عن عجلة الدوران السريع في حداثة سائلة تجرف كل شيء وتنظر بعين التقدير للشرق وثقافاته وترنو إليه في كونه كتلة من العصيان والصمود، في حين عجزت أن تنجز ذلك في أوطانها الغارقة في وهج الحضارة، وعندما بيَّن الفيلسوف الفرنسي آلان باديو في كتاب ميتافيزيقيا السعادة أن ما يسير عليه الإنسان الغربي ليس الحياة الحقيقية، بل ما هو مطلوب منه بعقيدة التماهي مع النمط المرسوم له بدقة، ودعا للثورة واستشهد بمقولة كاهن ثار يوما إذ قال „كونوا واقعيين.. اطلبوا المستحيل „، على الطرف الآخر نسمع ونشاهد الفلسطيني المقاوم يمثل ثورة العين التي تقاوم المخرز ويطلب المستحيل حاملا قذائف الياسين ويسدد وينتظر يقول "الله أكبر" بهمس روح تقترب من الله في رجائها وتتعلق بأهداب السماء يرمي ويصيب.