بين الانشقاق والاختلاف في الثورة السورية

2019.12.06 | 16:22 دمشق

شاع تعبير الانشقاق وانتشر مع بدايات الثورة السورية، حين غادر ضباط وجنود سوريون صفوف الجيش النظامي، رافضين المشاركة في إطلاق النار على المتظاهرين السلميين الذين خرجوا في ربيع عام 2011 في مختلف أرجاء المدن والمحافظات السورية، مطالبين بإنهاء حالة الطوارىء وإطلاق الحريات العامة وصولا إلى تغيير النظام الاستبدادي الذي هيمن على سوريا منذ عام 1963.

وكان أشهرهم المقدم حسين هرموش، الذي أسس وقاد أول مجموعة منشقة من الجنود السوريين، أطلق عليها اسم الجيش السوري الحر، والذي شاع وانتشر لاحقا، لكنه صار فضفاضا وغير متطابق. وفيما بعد، صار تعبيرالانشقاق اسما مرادفا لكل خروج عن مؤسسات النظام الأخرى عسكرية كانت أو مدنية، وهدف إلى الانضمام لصفوف الثورة على تنوعها. وكان أشهر تلك الانشقاقات، ما قام به رئيس وزراء النظام السوري د. رياض حجاب عام 2012.

بهذا المعنى، فإن الانشقاق فعل مشروع أخلاقيا ووطنيا، كونه مثّل خيارا أخيرا حاسما وحرا للفرد، في رفض البقاء ضمن صفوف نظام ومؤسسات مجرمة تمارس القتل والقمع بحق الشعب. ولذلك كان هناك ترحيب واسع بالمنشقين في صفوف الثورة، مهما كانت أوضاعهم وممارساتهم في إطار النظام ومؤسساته قبل ذلك، تشجيعا لتفكيك صفوف النظام وقاعدته الاجتماعية من جهة، واعترافا بحق المنشقين

الانشقاق السوري إنما هو خروج وتضاد كلي ناتج عن خلاف فكري وعملي شامل مع سياق النظام ومنظومته

في حسم خياراتهم من جهة أخرى، ولتدعيم انضمامهم إلى صفوف الثورة على قدم المساواة الكاملة مع باقي المواطنين.. وذلك بعد أن لبثوا صامتين طويلا، كشأن أكثرية الشعب السوري الهاجعة على قيد الحياة والضرورات، تحت نير إرهاب النظام وأجهزته الأمنية الأخطبوطية المعروفة.

بكلام آخر، فالانشقاق السوري إنما هو خروج وتضاد كلي ناتج عن خلاف فكري وعملي شامل مع سياق النظام ومنظومته، نظرا لأنه لم يعد ممكنا حل الخلافات معه بالحوار، وباللجوء إلى إلى الآليات السلمية التي ابتكرتها البشرية لحل الصراعات الاجتماعية والتي تندرج في الإطار الديمقراطي المعروف، على عكس باقي الخلافات الجزئية الفكرية أو العابرة. وفي الواقع لم يعرف تاريخ النظام، ولم يسمح بظهور أية آلية سلمية لحل الخلاف معه، ولا ضمن صفوفه، ولذلك كان الانشقاق هو الأسلوب الوحيد الذي أتاحه واقعيا، والذي استخدم في إطاره السجن الطويل والمؤبد والنفي الإجباري، وصولا إلى إعدامه أو قتله بعض المنشقين أيضا!

وهكذا، لم يقتصر الانشقاق السوري على العسكريين والمسؤولين السياسيين، بل تعداهم إلى القضاة والدبلوماسيين والإعلاميين والموظفين وقطاعات عديدة أخرى بعد اندلاع الثورة.

لكن ظاهرة الانشقاق لم تتسع في الواقع، وبقيت محدودة. وقد يعزى ذلك إلى ارتباطه بمجريات الصراع السوري، وتعثر مشروع الثورة، الذي أدى إلى تراجع كثير من الكارهين للنظام عن مشروع انشقاقهم، خوفا على مصيرهم ومصير عائلاتهم ومحيطهم الاجتماعي، وربما كان خلف ذلك أيضا، أن بعضا من أبرز المنشقين، لم يكشفوا عن تاريخ علاقتهم بالنظام وملابساتها، ولم يقدموا كشف حساب علني أو تبرئة ذمة عن ذلك، مما أضعف ثقة جمهور الثورة بهم، وأدى بالتالي إلى إضعاف ظاهرة الانشقاق عموما.

 لكن الأهم من ذلك اليوم، هو تداخل مفهوم الانشقاق واضطرابه داخل صفوف الثورة نفسها، مما شكل ظاهرة انقسام وتفتت، تذّكر بعطب طالما شاع إطلاقه على العلاقات داخل الجماعة السورية وبين أفرادها، وذلك منذ انهيار دولة الوحدة المصرية السورية وحدوث الانفصال، وكان قد أشار إلى ذلك الصحفي الشهير حسنين هيكل، في روايته عن توجه الرئيس السوري السابق شكري القوتلي بالتهنئة للرئيس عبد الناصر برئاسة دولة الوحدة الجديدة، مع تحذيره من ترؤس شعب سوري يتكون من أربعة ملايين زعيم، هم عدد سكانه في ذلك التاريخ لعام  1958 عند قيام دولة الوحدة القصيرة الأمد.

وفي الواقع، فإن انقسام جماعات الثورة السورية وذبولها، منذ ولادة منظماتها الأولى سواء في الداخل كالهيئة العامة للثورة واتحاد التنسيقيات وغيرها، أو في الخارج كالمجلس الوطني والائتلاف واتحاد الديمقرطيين السوريين وغيرها، يشير إلى ذلك العطب بوضوح.

وفي هذا الإطارنلاحظ الفرق بين مفهومين، ولكل منهما آلية عمل مختلفة بطبيعة

الاختلاف وهو مفهوم فكري، يعترف بأن البشر متعددون ومختلفون بطبيعتهم، لكن هناك قواعد وقوانين عامة تمكنهم من الحفاظ على اجتماعهم وفق أهدافه

الحال الأول: هو الانشقاق عن الجماعة، كما ورد في التحليل أعلاه، وآليته تكمن في الخروج الكلي والصراع مع الجماعة السابقة بمختلف الأشكال السلمية أوالعنفية في النهاية.

الثاني: الاختلاف وهو مفهوم فكري، يعترف بأن البشر متعددون ومختلفون بطبيعتهم، لكن هناك قواعد وقوانين عامة تمكنهم من الحفاظ على اجتماعهم وفق أهدافه، وتساعدهم على حل خلافاتهم بآليات سلمية، لم يجد البشر في إطارها أفضل من أساليب الديمقراطية المعروفة حتى تاريخه. ويعبر عن ذلك قول شهير للمفكر المصري الراحل (أحمد لطفي السيد) في هذا الصدد: الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية!

لذلك، فعندما يلجأ فرد ما إلى الخروج عن الجماعة بسبب خلاف حول فكرة أو موقف جزئي ما، على الرغم من كونه يتفق معها في مجمل الأفكار والمواقف الأخرى، فهذا يعني أنه لا يقبل التعدد والاختلاف، ولا يحترم طرائق حله السلمية.

أما على المستوى النفسي، فالفرد هنا يمكن تفسير سلوكه على الغالب، بكونه انطوائيا، يعتقد أنه يملك الحقيقة، ولايتمتع بفضيلة الصبر، التي قد تكشف له خطأ تصوراته وفهمه، أو تسمح له بكشف خطأ تصورات الآخرين وفهمهم، مما يسهم في الحفاظ على الجماعة وتطور بنيتها الموحدة. أما إذا تابع الفرد خروجه، ولجأ إلى محاولة تشكيل جماعة أخرى مقابلة، فهو ينتقل من الاختلاف في الرأي إلى الانشقاق، ولا يسعى إلى إلغاء الجماعة المختلفة فقط، بل إنه يحطم كل أساس للتعاقد الاجتماعي وتكوين الجماعة البشرية، وقد يفتح بذلك بابا للعنف بكل أشكاله!

وإذا كانت معظم تفسيرات الانشقاقات التي حدثت في جماعات الثورة السورية، تتوقف عند ميول الزعامة والتفرد، التي عملت بوعي أو بدون وعي، على تحقيق استراتيجيات النظام في تحطيم تلك الجماعات، فإنها إذ تكتفي بذلك، إنما تكرر الدوران حول شخصيات الأفراد ودوافعهم التي لاتخلو منها أية ظاهرة اجتماعية بالنتيجة، لكنها لا تسهم في كشف الآليات العامة، أو القانون الاجتماعي العام الذي يقف وراء أفعالهم، ويجعلها تتكرر وتمتد في الوقائع العديدة.

وذلك ما كرسه نظام الاستبداد الأسدي، على مدى تاريخه الطويل الذي لم يعرف الاختلاف، بل دفع إلى انشقاق من انتهى بهم الأمر إلى الخروج عن النظام وجماعته، في خروج إلى الهجرة عند من تمكنهم ظروفهم من ذلك باختراقات خاصة، أو في دفعهم خارج الحياة، قتلا أوغالبا في سجن مؤبد وما يماثله من معتزلات ومناف قسرية!.