icon
التغطية الحية

بوليتيكو: كيف يجوع بوتين سوريا وما الذي بوسع بايدن فعله؟

2021.03.25 | 20:34 دمشق

download.jpeg
بوليتيكو | تشارلز ليستر وجيفري فيلتمان - ترجمة: ربى خدام الجامع
+A
حجم الخط
-A

من شمال غربي سوريا، تبدو إحدى أكبر الأزمات الإنسانية في العالم كازدحام مروري لا ينتهي، فمع مطلع شمس كل يوم، تمضي أرتال من الشاحنات المحملة بالطعام والماء والملابس واللوازم الطبية ومعدات البناء ساعات وهي تنتظر لتعبر الحدود من تركيا إلى المرتفعات السورية. وبمجرد أن تقطع الحدود، تمر تلك الشاحنات معبر باب الهوى السوري ثم تتجه نحو منطقة عاشت الحرب أكثر من غيرها من المناطق السورية.

وبالنسبة لنحو 4.5 مليون نسمة يعيشون في شمال غربي سوريا وسط ركام خلفته سنوات القصف على يد النظام، تعتبر الشحنة التي تحملها تلك الشاحنات شريان الحياة بالمعنى الحرفي للكلمة.

بيد أن عنق الزجاجة لم يكن دوماً خانقاً إلى أقصى الحدود كما هو عليه اليوم، إذ عندما بدأت الأمم المتحدة بإرسال المساعدات عبر الحدود في عام 2014، كان لديها أربعة معابر مع تركيا والعراق والأردن. وبحلول شهر كانون الثاني من عام 2020، لم يبق من تلك المعابر سوى اثنين مفتوحين أمامها. وابتداء من شهر تموز الماضي، لم يعد هناك إلا معبر واحد، ألا وهو معبر باب الهوى، الذي أصبح يعاني من ضغوطات كبيرة مع اشتداد الطلب على المعونات الإنسانية في الوقت الذي تفشى فيه كوفيد-19.

أي أن ما اختلف في الأمر ليس درجة الاحتياج، والتي زادت منذ أن بدأ برنامج المعونات الأممية، وأصبح اقتصاد سوريا يعاني من أزمة حقيقية، كما لم يتراجع مستوى العنف هناك، بل إن روسيا هي التي تغيرت، فقد أصبحت تستغل حق النقض في مجلس الأمن الدولي لتعمل على إغلاق المعابر المخصصة للمعونات بشكل ممنهج، واحداً تلو الآخر.

وفجأة أصبحت المعونات تتدفق على المناطق التي تسيطر عليها قوى المعارضة السورية، والتي تم تجويعها بشكل ممنهج على يد الديكتاتور بشار الأسد. بيد أن روسيا تعتبر الأسد حليفاً لها، ولهذا فإن أي مساعدات أو معونات، حتى تلك التي تقدم بناء على أسباب إنسانية، تعتبرها روسيا إهانة لحكمه. وبناء عليه، وخلال مفاوضات جرت في شهر كانون الثاني الماضي وكان من المقرر لها أن تحدد مصير عملية تمديد وصول المساعدات، فرضت روسيا إغلاق المعبر مع شمالي العراق، وإغلاق معبر آخر مع الأردن، بعدما كان كلاهما يعتبران شريان الحياة بالنسبة لشمال شرقي سوريا وللمنطقة الشرقية فيها. وبعد هذا، وتحديداً في شهر تموز الفائت، استعانت روسيا بالأسلوب ذاته لتغلق معبر باب السلامة الذي يصل بين تركيا وشمالي حلب.

وهكذا لم يبق سوى معبر واحد لوصول المساعدات إلى سوريا عبر تركيا، ألا وهو معبر باب الهوى. واليوم، يلمح الروس لنياتهم بشأن إغلاق هذا المعبر أيضاً عند عرضه للتصويت في مجلس الأمن الدولي خلال هذا الصيف. وإذا نجح الروس في مساعيهم، فستنقطع المساعدات الأممية التي تصل عبر الحدود نهائياً، وبذلك سيتم فصل شمال غربي سوريا عن كامل المجتمع الدولي، وعن أي شكل من أشكال المساعدة.

وخلال العقد الماضي، لم تمثل الأزمة العنيفة في سوريا التي استعصت على الحل أي فرصة مضمونة لصناع السياسة حتى يقوموا بأي تغيير إيجابي فيها. ولكن في غضون الأشهر المقبلة، ستتسنى للرئيس جو بايدن فرصة كهذه، تتمثل بإحياء تدفق المساعدات الإنسانية من دون أن يقف أمامها شيء لتصل إلى ملايين المدنيين في الشمال السوري، بعدما بات هؤلاء بحاجة ماسة إلى المساعدة أكثر من أي وقت مضى. إلا أن هذه الفرصة التي سيكون لها عميق الأثر لم تأت من فراغ، فالرئيس بايدن، ووزير خارجيته أنطوني بلينكين مع المديرة القادمة للوكالة الأميركية للتنمية الدولية السيدة سامانثا باور، لا بد أن يرأسوا المساعي الحازمة التي تسعى لتغيير حسابات روسيا قبل تموز المقبل. كما يجب عليهم أن يحددوا سبلاً أرحب لقلب مجريات الأمور وتضييق الخناق على روسيا ليس فقط في سوريا والشرق الأوسط، بل أبعد من ذلك بكثير، والهدف من ذلك تكبيدها عن عمد كل تلك الكلف المحتملة عند قطع المساعدات الإنسانية عن سوريا.

فلقد دعم فلاديمير بوتين بشار الأسد؛ ذلك الديكتاتور الذي يحكم سوريا، على مدار 10 أعوام من الثورة السورية، إذ عندما بدأ المحتجون في سوريا، الذين حمل معظمهم الورود، بالتظاهر لدعم مبدأ الإصلاح السياسي، لم يستجب الأسد لمطالبهم، بل رد عليهم بعنف غير مبرر. ومع انزلاق النزاع نحو الحرب، تدخل بوتين، عبر إرسال الأسلحة والمستشارين العسكريين في بداية الأمر، ثم وابتداء من شهر أيلول من العام 2015، بدأ بالتدخل العسكري بشكل كامل.

وبالنسبة لبوتين، قدمت الحرب السورية له فرصة ليعيد لروسيا مكانتها بوصفها عنصراً فاعلاً قوياً في تلك المنطقة، وقد تم له ذلك عبر حماية أقدم حلفاء روسيا في الشرق الأوسط، وهزيمة ما اعتبره الحملة الساعية لتغيير النظام والتي تقودها الولايات المتحدة الأميركية.

وفي عام 2021، أجمع كثيرون على أن بوتين قد حقق هذين الهدفين، إذ من خلال دعم الأسد، تعاملت روسيا بشكل وثيق مع حزب الله والحرس الثوري الإيراني، كما حافظت على دعمها الدبلوماسي للصين وهي أيضاً دولة عضو لدى مجلس الأمن الدولي، بقيت على معارضتها الشاملة للدعم الغربي لأي تغيير ديمقراطي في أي دولة، بالإضافة إلى محافظتها على علاقتها الدبلوماسية مع الأسد. ولقد أشار الدبلوماسيون الروس والصينيون بأن قراراتهم التي استهدفت عملية تقديم المعونات عبر الحدود ترتبط وبشكل وثيق وواضح بحالة انتقامية من العقوبات الأميركية والأوروبية التي فرضت على نظام الأسد.

هذا وقد تم توثيق حالة الحرب في النزاع السوري بشكل جيد، بيد أن استغلال روسيا لنفوذها الدبلوماسي في الأمم المتحدة بهدف تدعيم استراتيجية الحصار والتجويع لم تنل نصيبها من التوثيق والانتشار. فروسيا تسعى من وراء حرمان الملايين من الناس من المساعدات التي يحتاجون إليها بشكل كبير لتحقيق هدف أوحد ألا وهو إرغام الناس على الخضوع والاستسلام للنظام الذي صوب نيرانه عليهم وقصفهم ورماهم بالقنابل واستهدفهم بالغازات السامة على مدار عقد كامل من الزمان.

أما الرافعة التي تعتمدها روسيا لتحقيق تلك المآرب فهي مجلس الأمن الدولي، إذ بحلول عام 2014، أي عندما كانت الحرب في سوريا في أوجها، توقفت الأمم المتحدة عن عد القتلى في تلك الحرب بعد سنوات من الحصار والقصف المكثف الذي شنه الأسد بلا هوادة على مدن بأكملها تؤوي مجتمعات حاضنة للمعارضة. وهكذا أذكت درجة العنف أوار أزمة إنسانية أخذت تتفاقم وتتوسع يوماً بعد يوم، وقد تطلب ذلك ظهور استجابة كبيرة لتقديم المساعدات. بيد أن النظام لم يكن يريد لتلك المساعدات أن تصل إلى حاضنة المعارضة، وفي الوقت الذي يقر فيه القانون الدولي ضرورة تنسيق عمليات تسليم المساعدات مع الحكومة المضيفة لتقوم بتسهيل وصولها إلى الناس، أصبحت عملية تلبية الاحتياجات الإنسانية الهائلة لحواضن المعارضة عبر دمشق ضرباً من المستحيل.

المساعدات عبر الحدود

وهذا ما دفع مجلس الأمن الدولي للتصويت على قرار في عام 2014، والذي اعتبر من القرارات النادرة لذلك المجلس كونه فرض منح الإذن للمجتمع الدولي لتقديم المعونات الإنسانية الأساسية لملايين المدنيين الذين يعيشون هناك، وذلك بعد إبلاغ دمشق، من دون الحصول على موافقتها. إلا أن الأسد اعترض على ذلك، وأما مجلس الأمن فقد حيد المخاوف التي تتصل بسيادة البلاد وأجاز فكرة الاستعانة بالمعابر الحدودية الأربعة لتقديم المساعدات الإنسانية إلى المناطق التي تسيطر عليها المعارضة. وعندئذ اعترفت الدول الأعضاء في مجلس الأمن بأن الملايين من السوريين سيتعرضون للمجاعة في ظل غياب تلك المساعدات التي تقدم عبر الحدود.

وبعد ذلك تحولت الجهود التي رأستها الأمم المتحدة لتقديم المساعدات، والتي أعقبت ذلك القرار على الفور، إلى عملية ضخمة، تقوم على تقديم كل شيء بدءاً من الطعام والماء وحليب الأطفال وصولاً إلى اللوازم الطبية واللقاحات، وتوفير المأوى للنازحين. وبحلول شهر كانون الثاني من العام 2021، وصلت نحو 44 ألف شاحنة مساعدات إلى مناطق المعارضة عبر المعابر التي رخصتها الأمم المتحدة.

وقد استجاب المجتمع الدولي بكل كرم وسخاء للمناشدات الإنسانية التي أطلقتها الأمم المتحدة خلال الأشهر والسنوات التي أعقبت كل ذلك، في الوقت الذي قام فيه الأسد بكل ما بوسعه لمنع وصول المساعدات التي تعمل على إنقاذ الأرواح إلى السوريين الذين هم بأمس الحاجة إليها. إذ في بعض الحالات، كانت الوكالات الإنسانية تحرم بكل بساطة من الحصول على إذن للسفر. وفي الكثير من الحالات الأخرى، كانت حكومة النظام توقف قوافل المساعدات وتصادر معظم المواد الثمينة التي يحتاج إليها الناس، مثل حليب الأطفال، إلى جانب إتلاف البقية (وذلك عبر ملء أكياس الطحين بالزجاج ومخلفات الطيور مثلاً، إذ تعتبر تلك الممارسة المفضلة لدى عناصر النظام). وبالرغم من هذا التدخل، أسهمت الجهود الساعية لتقديم المساعدات عبر الحدود في التخفيف من حدة تقويض النظام بشكل متعمد للقانون الإنساني الدولي.

مساعدة "إنسانية" للأسد

بيد أن كل ذلك قد تغير مع تجميد جبهات النزاع، بعدما تبين أن الخليط الممتد في مختلف أرجاء سوريا من الميليشيات المحلية والأجنبية غير قادر على التقدم والتوغل أكثر. ومع تعرض سوريا لتلك المواجهة الداخلية، بدأت روسيا بالسعي لتحقيق استراتيجية مختلفة بهدف مساعدة الأسد، وذلك عبر الاستعانة بروافعها الدبلوماسية لتقطع شيئاً فشيئاً المساعدات التي تصل إلى المناطق التي بقيت على معارضتها لنظام الأسد. بل حتى المناطق التي تمت استعادتها بالعنف لتعود إلى سيطرة النظام لم تعد تحصل على المساعدات عبر الحدود، إذ تم التخلي عنها وتجاهل أمرها من قبل حكومة النظام المفلسة في دمشق. ففي الجنوب السوري مثلاً والذي بقي تحت إدارة المعارضة حتى منتصف 2018، أصبحت الظروف المعاشية سيئة، ما دفع الأهالي إلى الاستنجاد بأقاربهم في الخارج حتى يرسلوا إليهم الأموال ليقوموا بإصلاح الأشياء التي دمرت مثل أنابيب المياه أو خطوط الكهرباء.

بدأت الخطوة الأولى لاستراتيجية الحصار والتجويع الدبلوماسية التي انتهجتها روسيا في شهر كانون الثاني من عام 2020، عندما استغلت حق النقض لتجبر مجلس الأمن الدولي على إغلاق أحد المعابر الحدودية، وإنهاء التفويض الذي يجيز إدخال المساعدات من العراق عبر معبر اليعربية، ما يعني عدم وصول كامل المساعدات الإنسانية ونصف اللوازم الطبية إلى نحو 2.5 مليون مدني يعيش في شمال شرقي سوريا بين ليلة وضحاها، بما أن هذه المنطقة تسيطر عليها قوات حليفة للولايات المتحدة في حربها ضد تنظيم الدولة، ألا وهي قوات سوريا الديمقراطية (قسد). ومنذ إغلاق ذلك المعبر، اضطرت تلك المنطقة إلى الاعتماد على وصول لوازم طبية أقل بكثير مما كان عليه الوضع من قبل ومن دون تفويض من قبل الأمم المتحدة، والتي تصل عبر معبر فيشخابور الحدودي، فضلاً عن مساعدات أممية أقل من أن تذكر صارت ترسل إلى تلك المنطقة من دمشق. وبالنتيجة، ومع مواصلة القوات الأميركية دعمها للحملة التي تقودها القوات المحلية ضد تنظيم الدولة في شمال شرقي سوريا، لم يبق سوى 6% من المشافي تعمل هناك بشكل كامل، مع تقلص كبير في الموارد الغذائية والسلع الأساسية الأخرى.

وبعد ستة أشهر، أي في تموز من عام 2020، أقحمت روسيا نفسها بصورة عدوانية، وبدعم من الصين ضمن المفاوضات التي دارت بشأن تجديد التفويض لإدخال المساعدات عبر الحدود إلى سوريا، إذ لوحت باستخدام حق النقض لقطع سائر المساعدات. وبعد مفاوضات طويلة ومضنية، واستخدام حق النقض لمرات عديدة، نجحت كل من روسيا والصين في إغلاق جميع المعابر باستثناء معبر باب الهوى بين تركيا وشمال غربي سوريا، والذي منح تمديداً لمدة 12 شهراً، ويبدو أن أكثر من فاز في تلك التسوية هو تركيا، التي تشترك بحدودها مع شمال غربي سوريا، وما تزال تتقلب في علاقة ديناميكية معقدة قائمة على الحب والكره تجاه موسكو، تحميها قدرة كلا الطرفين على تهديد مصالح الطرف الآخر في سوريا.

ومن المقرر أن تنتهي هذه التسوية خلال هذا الصيف، كما أن الدبلوماسيين الروس أعلنوا مرات عديدة عن نيتهم عرقلة أي تمديد آخر لذلك التفويض، ما يعني قطع المساعدات التي تمر عبر الحدود بشكل كامل.

يعيش حالياً في شمال غربي سوريا ما لا يقل عن 4.5 مليون نسمة جميعهم يعتمدون على المساعدات الدولية التي تمر عبر الحدود، إذ هنالك طفل بين كل ثلاثة أطفال يعاني من حالة سوء تغذية شديدة وتظهر لديه أعراض التقزم، فقد تدهورت الظروف المعاشية هناك بشكل مطرد منذ أن تم تقييد المساعدات وحصر مرورها عبر باب الهوى قبل سبعة أشهر من اليوم. فضلاً عن احتمال سقوط قذيفة هنا أو قيام غارة جوية هناك في ظل هذا النزاع المضني الذي ما يزال قائماً. ومع استمرار تفشي كوفيد-19 بين الناس هناك، وضعف الرعاية الصحية، هذا إن كانت متوافرة بالأصل، لا بد أن يتم تأجيل الخطط الساعية لتأمين لقاحات كوفيد لشمال غربي سوريا ضمن خطة كوفاكس العالمية أو ركنها على الرف بشكل كامل إذا تركت روسيا لتقوم بما يحلو لها، وكذلك الأمر للكثير من برامج التطعيم ضد شلل الأطفال والسل في الشمال السوري.

أزمة كارثية شمال غربي سوريا

ولهذا أعلن مسؤول المساعدات الإنسانية لدى الأمم المتحدة السيد مارك لوكوك في إحاطة قدمها لمجلس الأمن الدولي بأنه إذا نجحت روسيا في تحقيق مآربها داخل الأمم المتحدة خلال شهر تموز المقبل، فعندئذ ستتحول الأزمة الإنسانية في الشمال السوري من سيئة إلى كارثية.

ثم إن تداعيات عملية الإغلاق تتجاوز الناحية الإنسانية البادية للعيان بشكل مباشر.

ففي شمال غربي سوريا، ستظهر أول نتيجة محتملة تترتب على ذلك في استئناف الأعمال العدائية الكبرى، إذ بالرغم من أن اتفاقاً هشاً لوقف إطلاق النار ما يزال قائماً في شمال غربي سوريا، صعدت كل من روسيا ونظام الأسد من استهدافهما للبنية التحتية الأساسية في منطقة المعارضة، وقد شمل ذلك المشافي ومستودعات الغاز والشوارع الرئيسية، والمخازن المخصصة للشاحنات التي تحمل المساعدات. فبالإضافة إلى أن هذا يمثل انتهاكاً صارخاً لوقف إطلاق النار، يبدو هذا التصعيد متعمداً ضمن حملة مقصودة وموجهة هدفها العمل على زيادة تدهور الظروف المعاشية، ويعتبر ذلك تمهيداً لقطع المساعدات بشكل كامل في شهر تموز، مع شن حملة عسكرية شاملة على تلك المنطقة. ولقد أدى آخر اندلاع للأعمال العدائية في هذه المنطقة إلى نزوح قرابة مليون نسمة في غضون أسابيع، ما تسبب بظهور أسوأ أزمة إنسانية في تاريخ هذه الحرب، فضلاً عن بدء موجة لجوء صغيرة كانت أوروبا مقصدها.

بيد أن التدهور الكبير في الظروف المعاشية ومعاناة المدنيين يمكن أن يتسبب في ظهور انشقاقات جديدة ضمن هذا النزاع، كما قد يذكي حالة التطرف مع تهيئة الظروف التي لا بد أن تقف في وجه قدرة الولايات المتحدة على مواصلة تدخلها في محاربة تنظيم الدولة الذي أبدى من الإشارات ما يقلق بشأن احتمال عودته وظهوره في مناطق النظام.

إسهام روسيا في المساعدات واحد في المئة

وبما أن روسيا تعي تماماً بأنها ستفتح العيون عليها عندما ستعرقل ذلك القرار، لهذا قامت بمنع منظمات المجتمع المدني السورية، بل حتى لجنة الإنقاذ الدولية من التحدث إلى مجلس الأمن خلال الأسابيع القليلة الماضية. كما أن هيكلية مجلس الأمن تمنح روسيا سلطة فيما يتصل بتسليم المساعدات في سوريا بصرف النظر عن نسبة إسهام روسيا في تقديم تلك المساعدات. إذ تقوم كل من الولايات المتحدة وأوروبا في هذه الحالة بتمويل أكثر من 90% من المساعدات الأممية التي تقدم إلى سوريا، في حين لا تسهم روسيا إلا بنحو 1% من تلك المساعدات. ومع ذلك يمنح حق النقض الذي تتمتع به روسيا في الأمم المتحدة بوتين سلطة كبيرة تجعله قادراً على رهن قرارات مجلس الأمن لصالحه، إلى جانب قدرته على قطع وصول المساعدات إلى سوريا بشكل كامل.

غير أن الولايات المتحدة وأوروبا ما تزالان تحتفظان ببعض النفوذ هناك، إذ بوسع الولايات المتحدة أن تعقد اجتماعات غير رسمية للدول الأعضاء في مجلس الأمن خلال الأسابيع والأشهر المقبلة وذلك لمواصلة نشر الوعي بشأن مدى الاحتياج إلى المساعدات والعواقب التي سيعاني منها الناس من جراء ما ستتخذه روسيا من إجراءات. والهدف من تلك الاجتماعات التي تعتبر أقل رسمية والتي تضم الدول الأعضاء في مجلس الأمن هو تأمين منصة يتم خلالها مناقشة القضايا الحساسة بكل صراحة. وبالرغم من أن هذا النوع من الاجتماعات تقوم الدول الأعضاء بمجلس الأمن بعقدها، فإنها لا تخضع بصورة رسمية لاختصاص المجلس بحد ذاته، أي أنها ليست عرضة للعرقلة من قبل الدول الأعضاء الأخرى. لذا فإن عقد مثل تلك الاجتماعات سيتيح للولايات المتحدة توفير منبر للأدلة الأساسية بشأن أهمية تقديم المساعدات الإنسانية والتي لا بد للدول الأعضاء في مجلس الأمن أن يطلعوا عليها، وكذلك العالم بأسره.

وعلى نطاق أوسع من هذا، إذا تسنت للولايات المتحدة وحلفائها أية فرصة لمنع روسيا والصين من عرقلة تلك القرارات، فلا بد لتلك الدول من العمل على أعلى المستويات وأرفعها. ولهذا تبذل جهود تستحق الثناء داخل الأمم المتحدة وضمن الحكومة الأميركية وحكومات الدول الحليفة لها لمنع وقوع ذلك القدر المحتوم، وذلك عبر المناورة الدبلوماسية للوقوف ضد نيات روسيا ومواجهتها مع تجهيز خطط الطوارئ بالنسبة للمساعدات التي لم تنل تفويضاً من قبل الأمم المتحدة. إلا أن هذه الجهود ليست كافية، إذ لتغيير حسابات روسيا، يتعين على الرئيس بايدن أن يتولى زمام هذا الملف بنفسه، إلى جانب بلينكين وباور، من دون الاكتفاء بالتدخل فيه فحسب، إذ عليه أن يرأس أيضاً كل ما يجري قبل التصويت الذي سيعقد في تموز المقبل. كما أن هنالك ضرورة كبيرة لإجراء المكالمات الهاتفية على مستوى الرؤساء، والمفاوضات التي تجري على مستوى وزراء الخارجية حتى يتم نقل قرار أميركا بشكل مباشر واعتزامها تولي أمور هذا الملف، وللحديث عن العواقب المحتملة في حال قطع المساعدات. وهنا من الصعب تخيل الرئيس بوتين يتجاهل هذا الأمر ولا يأخذه على محمل الجد. فقد شاع بشكل كبير بأن تدخل الرئيس أوباما بشكل مباشر وعنيف في سوريا في عام 2014 استدعى منه إقناع بوتين بتمرير القرار المتعلق بتسليم المساعدات الأممية عبر الحدود قبل كل هذا.

وحتى الآن استطاعت روسيا أن تتفادى خضوعها لأية عقوبات تتصل بما مارسته من أنشطة في سوريا، ويشمل ذلك غاراتها المثبتة بالأدلة على المشافي والمدارس والأسواق وغير ذلك من الأهداف المدنية، إذ لا بد لكل هذا أن يتغير، لأن الجيش الروسي لم يرتكب جرائم حرب وحسب في مناسبات مختلفة، بل إنه أكبر حام للأسد الذي أصبح بحوزة المجتمع الدولي ضده الكثير من الأدلة تفيد بارتكابه جرائم ضد الإنسانية تفوق بعددها وكثرتها ما قدم ضد النازيين في محاكمات نورمبيرغ. وهنا من الصعب تخيل مصادر الردع والنفوذ الدبلوماسي التي يمكن لتلك الوقائع أن تفرزها، فضلاً عن الكثير من السبل الممكنة الأخرى لممارسة الضغط الذي تستدعيه الإجراءات التي تتخذها روسيا في مناطق أخرى من العالم، بينها مناطق موجودة ضمن حدود الولايات المتحدة بحد ذاتها.

كما لا بد من السماح بمواصلة تمرير المساعدات عبر الحدود لدعم الملايين الذين ما يزالون بحاجة ماسة إليها، ليس فقط عبر معبر باب الهوى، بل أيضاً عبر معبر اليعربية وباب السلامة. أي أن التحديات التي تعترض السبيل اليوم أصبحت أكبر مما كانت عليه في عام 2014، كما أصبحت المخاطر أعلى بكثير. وبعيداً عن سائر أشكال السياسة، لا بد من الاعتراف بأن هذا الأمر يتصل بالمبادئ الإنسانية، وتحيق به مخاطر تهدد أرواح الملايين من البشر حرفياً. لذا في حال فشل الولايات المتحدة في منع روسيا هذه المرة، فإن ذلك سيشكل سابقة مروعة وخطيرة، ستترك العالم بأسره يعاني ويناضل كثيراً قبل أن يتراجع عنها ويعكس مفاعيلها.

 

 المصدر: بوليتيكو