زادت وتيرة الغارات الجوية الروسية، وعمقها ميدانياً، منذ قرابة الأسبوعين على مدن وبلدات جنوب إدلب وشمال حماة، وذلك وفق سياسة روسية دموية وممنهجة ضمن أهدافها من الحملة الأخيرة على شمال غرب سوريا منذ بداية آذار الفائت، وتحديداً بعد تسيير الدورية التركية الأولى في إدلب في الثامن من الشهر نفسه.
تتبع موسكو سياستين في تصعيدها الأخير على شمال غرب سوريا، الأولى قصيرة المدى عوّلت فيها على إحداث انهيار في خط الجبهة الممتد من مدينة اللطامنة حتى بلدة قلعة المضيق على طول 25 كم، وأخرى طويلة الأمد وتقليدية تسعى من خلالها موسكو، بتكثيف الغارات الجوية، إلى دفع المدنيين على النزوح من المنطقة الواقعة في مثلث اللطامنة – سراقب – جسر الشغور، وهي المنطقة الواقعة جنوبي طريق حلب اللاذقية وشرقي طريق حلب – دمشق الدوليين.
كانت براميل النظام كافية لقتل 915 مدنياً خلال النصف الأول من العام الجاري، بحسب إحصائية الشبكة السورية لحقوق الإنسان، في حين وثّق فريق "منسقو استجابة سوريا" مقتل 1149 مدنياً في الفترة ما بين بداية شباط الفائت وحتى اليوم الإثنين.
أما الطائرات الحربية الروسية، فهي فضلاً عن ارتكاب عدد من المجازر بحق المدنيين، ركّزت ضرباتها بالصواريخ الدقيقة والارتجاجية على المرافق الحيوية المهمة مثل المراكز الطبية ومراكز الدفاع المدني.
هذه الاستراتيجية الطويلة الأمد والتقليدية التي تنتهجها موسكو، تهدف إلى خلق الظروف المطلوبة من ضرب معنويات الصمود لدى مجمل الأهالي والمقاتلين، وإشغال المقاتلين بعوائلهم النازحة، والمحافظة على الصورة الدموية لروسيا أمام الشعب السوري بأن شيئاً لم يتغير، وأن ضريبة عدم العودة إلى حضن النظام ستكون مكلفة وبالدم
هذه الاستراتيجية الطويلة الأمد والتقليدية التي تنتهجها موسكو، تهدف إلى خلق الظروف المطلوبة من ضرب معنويات الصمود لدى مجمل الأهالي والمقاتلين، وإشغال المقاتلين بعوائلهم النازحة، والمحافظة على الصورة الدموية لروسيا أمام الشعب السوري بأن شيئاً لم يتغير، وأن ضريبة عدم العودة إلى حضن النظام ستكون مُكلفة وبالدم. وثمار كل ذلك بالنسبة لروسيا ستكون خضوع قسم من هؤلاء الضحايا في حال تغيرت الظروف واستطاعت روسيا – وفق ما تحلم به- السيطرة على المنطقة المستهدفة، وفي هذا التوقيت تعرض موسكو على الفصائل والأهالي اتفاق مصالحة كما فعلت سابقاً في عدد من المناطق السورية الأخرى.
التصعيد قبيل الجلوس على طاولة المفاوضات
من طبيعة التحرك الروسي منذ بدء مسار أستانا، التصعيدُ العسكري بأقصى ما يمكن قبل كل جلسة تفاوضية، بهدف حرمان المعارضة السياسية من أوراقها وأن تفرض موسكو مطالبها على كل الدول الأخرى الضامنة الداعمة للمعارضة السياسية والعسكرية.
شنّت روسيا وقوات النظام ليل أمس الأحد هجوماً مركّزاً وعنيفاً جداً على بلدة تل ملح التي كانت قد سيطرت عليها الفصائل قبل 50 يوماً، واستعادت السيطرة على بلدة تل ملح وبلدة الجبين المجاورة. وبذلك عاد خط النار في هذه المنطقة الواقعة شرقي مدينتي اللطامنة وكفرزيتا إلى ما كان عليه قبل 50 يوماً، أي قبل أن تنتقل الفصائل من الدفاع إلى الهجوم.
عندما نقلت الفصائل المعركة إلى الضفة الأخرى من خط النار في السادس من حزيران الفائت وسيطرت خلال أيام على بلدات تل ملح والجبين والجلمة والشيخ حديد، استطاعت بذلك فرض مكان المعركة على روسيا، وهدأ بنسبة كبيرة خط الاشتباك الممتد ما بين تل الصخر قرب الحماميات وحتى الحويز شمال قلعة المضيق، مروراً بالقصابية والهواش.
سيناريوهات المعارك المقبلة
جيّشت روسيا إعلامياً خلال الأسبوع الفائت، بوصول تعزيزات كبيرة إلى شمال حماة، كما نقلت قبل 10 أيام قرابة الألف عنصر من جبهة حماة إلى جبهة اللاذقية، وتوقعت الفصائل العسكرية معركة "فاصلة" يوم أمس واستعدت لذلك. إلا أن كل ما قامت به روسيا والنظام هو استعادة السيطرة على تل ملح والجبين.
لا تستطيع قوات النظام التقدم من محوري القصابية والصهرية شمال بلدة كفرنبودة، للصعود على جبل شحشبو، وذلك بعد أن فشلت أساساً خلال الشهرين الفائتين من التقدم على هذين المحورين، ولأن الفصائل عززت مواقعها بشكل كبير على هذين المحورين، حيث تقع مناطق سيطرة الثوار هنا في منطقة مرتفعة من جبل شحشبو، وبقيت قوات النظام في المنطقة المقابلة، وباتت هدفاً سهلاً لطواقم الـ م/د ومدفعية الفصائل، التي دمرت أكثر من 20 آلية ومدرعة للنظام في هذا المحور.
أما محورا الحويز والحمرا شمالي قلعة المضيق، أيضاً فقد فشلت قوات النظام رغم الغطاء الجوي الروسي المكثف، في التقدم من هذين المحورين للصعود على جبل شحشبو. وساعد في تثبيت خط النار في هذين المحورين، ثبات نقطة المراقبة التركية في شيرمغار والتي وصلت قوات النظام إلى بُعد 2 كم فقط عنها في الحويز.
ووفق الظرف الميداني القائم حالياً في شمال حماة، لن تستطيع قوات النظام التقدم في المنطقة لحين السيطرة على بداية جبل شحشبو الممتد من شمالي كفرنبودة وقلعة المضيق حتى الطريق الدولي حلب – اللاذقية.
ولم يبق لموعد انعقاد الجولة الـ 13 من أستانا سوى يومين، وهي مدة غير كافية على الإطلاق لروسيا والنظام لتحقيق نصر يطمحون إليه.
اختبرت روسيا جدية الفصائل العسكرية وقدراتهم الميدانية في عدة معارك أبرزها معارك "جيش الفتح"، ومعركتا فك الحصار عن الأحياء الشرقية من مدينة حلب
تصعّد روسيا في شمال حماة بشكل متّزن لتجنّب ردة فعل تركية كبيرة، وبعد أن أكدت أنقرة موقفها من عودة خط النار إلى ما كان عليه في اتفاق سوتشي، وانصدمت روسيا بالمقاومة غير المتوقعة من قبل الفصائل في المنطقة والخسائر الكبيرة التي لحقت بقوات النظام؛ تتجنّب موسكو شن هجوم واسع على خط طويل من الجبهة لأنها تعلم أن الفصائل في كل المعركة الحاصلة لم ترم سوى بـ 20 بالمئة من ثقلها، فضلاً عن وجود قوة كبيرة هي الجيش الوطني شمال وشرق حلب، والتي لم تدخل المعركة إلا بمئات المقاتلين. وبذلك قد تنقلب الطاولة على موسكو في حال أطلقت الفصائل هجوماً شاملاً بثقلها الكامل.
اختبرت روسيا جدية الفصائل العسكرية وقدراتهم الميدانية في عدة معارك أبرزها معارك "جيش الفتح"، ومعركتا فك الحصار عن الأحياء الشرقية من مدينة حلب. وهي تعلم جيداً أن عدداً كبيراً من مقاتلي التنظيمات الجهادية الموجودة في شمال غرب سوريا لن يكون لهم مفر آخر سوى هذه المنطقة، وذلك ما سيدفعهم إلى المقاومة بشكل كبير.
أما في ريف اللاذقية، فترى موسكو أن احتمالية تحقيق تقدم في هذه المنطقة الوعرة والمحصنة بشكل كبير من قبل الفصائل، ضعيفة جداً، وهي فشلت في السيطرة على تلة الكبانة بعد أكثر من 30 هجوماً لها ولقوات النظام.
المقاربة الروسية بين اللجنة الدستورية والسيطرة على بعض القرى
تخشى موسكو حالياً أن يؤدي استمرار تصعيدها البري على شمال غرب سوريا، إلى أن تقاطع تركيا الجولة المقبلة من أستانا، وهي تعمل على المقاربة والتسديد بين منافع الهجوم البري الذي لن يُفضي سوى إلى السيطرة على عدد من القرى شمال حماة، ومنافع انطلاق اللجنة الدستورية.
وبحسب ما كشفه مصدر مطلع لموقع تلفزيون سوريا في الـ 12 من تموز الجاري، فإن مبعوث الأمم المتحدة إلى سوريا غير بيدرسن، أخبر هيئة التفاوض السورية خلال لقائهم في تركيا، أن النظام أبدى موافقته على الأسماء الـ 6 المتبقية من اللجنة الدستورية.
وأوضح المصدر أن بيدرسن لم يتوجه إلى دمشق في العاشر من الشهر الجاري، إلا بعد أن أخذ تأكيداً قطعياً من موسكو بأن النظام سيوافق على أن تحدد الأمم المتحدة الأسماء الـ 6 المتبقية من اللجنة الدستورية، وأبدى وزير خارجية النظام وليد المعلم لبيدرسن، موافقة على ذلك.
وتعتبر الجولة القادمة من أستانا فرصة ذهبية لتركيا، لتحصيل اتفاق متين مع روسيا حول إدلب، إما بتوقيع اتفاق جديد أو آخر معدَّل عن اتفاق سوتشي، يضمن إيقاف المجازر بحق المدنيين وإيقاف الحملة العسكرية على المنطقة
ومن هذا المؤشر يمكن تأكيد أهمية انطلاق اللجنة الدستورية لدى موسكو، رغم أنها عرقلت كثيراً آليات تشكيلها بهدف رسم معالمها بشكل يتوافق مع تطلعاتها لمستقبل سوريا.
وتعتبر الجولة المقبلة من أستانا فرصة ذهبية لتركيا، لتحصيل اتفاق متين مع روسيا حول إدلب، إما بتوقيع اتفاق جديد أو آخر معدَّل عن اتفاق سوتشي، يضمن إيقاف المجازر بحق المدنيين وإيقاف الحملة العسكرية على المنطقة، وذلك بالتهديد بعدم الإكمال في تشكيل اللجنة الدستورية التي تهم موسكو بشكل كبير.