انهيار الليرة السورية رغم تعليق العقوبات الغربية

2023.09.01 | 06:20 دمشق

انهيار الليرة السورية رغم تعليق العقوبات الغربية
+A
حجم الخط
-A

خسرت الليرة السورية ما يزيد على 50% من قيمتها أمام الدولار الأميركي، في غضون الشهرين الماضيين، وذلك بعد أن وصل سعر صرفها إلى حدود 15 ألفاً، للمرة الأولى في تاريخها، لكنها عادت وشهدت تحسّناً نسبياً في غضون الأسبوعين الماضيين.

ما يثير الدهشة والاستغراب، هو تلازم مسار الليرتين اللبنانية والسورية. فحينما تستقر الأولى، تستقر الثانية، بينما العكس صحيح أيضاً، ما خلا الأشهر الفائتة التي شهدت خلالهما الليرة اللبنانية استقراراً ملحوظاً بخلاف الليرة السورية التي واصلت الارتفاع إلى مستويات كبيرة جداً، ثم عادت إلى الاستقرار النسبي المترافق مع منسوب متواضع من التحسّن، خصوصاً بعد عودة العقوبات الأميركية والغربية، وذلك بعد رفعها لمدة 6 أشهر (منذ شهر شباط/ فبراير وحتى 8 من آب الحالي) تماشياً مع المتطلبات الإنسانية لأزمة الزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا قبل أشهر.

ومنذ مطلع العام الحالي، يُبدي المصرف المركزي السوري اهتماماً ملحوظاً في محاولة توحيد أسعار الصرف، وذلك في سياسة يعتبرها المراقبون الاقتصاديون في الداخل السوري "مخالفة لسياسته السابقة"، التي كان يعتمد عليها لخلق أسعار صرف متعددة وذلك لجملة أسباب، أبرزها: الاستفادة من الفرق بين الأسعار التي يعلن عنها، وتلك الواقعية لقيمة الليرة السورية أمام الدولار في السوق الموازية، بغية الحدّ من خسائره (تماما مثلما كان يفعل، وما زال، مصرف لبنان المركزي).

الخبراء الاقتصاديون الذين يدورون في فلك نظام الأسد، يحاولون تفسير انهيار الليرة السورية من خلال نظريات كلاسيكية، فيردّونها إلى العقوبات الغربية، وكذلك إلى الحصار المفروض على سوريا، مع العلم أنّ تلك العقوبات وذاك الحصار واقعان منذ بداية الثورة السورية ولا شيء جديد.

وبالتالي فإنّ هذا التفسير يبدو غير واقعيّ، ولا يحاكي الأسباب الحقيقية لانهيار العملة السوري، خصوصاً منذ بداية العام إلى اليوم.. فما هو المبرر الحقيقي خلف هذا الانهيار؟

مع شحّ الدولارات لدى المصرف المركزي السوري، يلجأ الأخير إلى تعويض هذا النقص من خلال طباعة كميات كبيرة من الليرات السورية، وهذا يسبب تضخّماً في سعر الصرف، ويؤثر على أسعار السلع التي ترتفع بدورها

يمكن تفسير ظاهرة انهيار الليرة السورية وفق أسباب محددة، منها العام والشامل ومنها الظرفي.

أمّا العوامل العامة فهي:

1. العقوبات الغربية على النظام السوري، التي تمنع الأموال بالعملات الصعبة من التدفق على شكل ودائع أو استثمارات إلى الداخل السوري.

2. شحّ العملات الصعبة في خزائن المصرف المركزي السوري. وهذا الواقع يمنعه من التدخل في السوق من أجل حماية الليرة السورية وضبط سعر الصرف.

3. الطباعة المفرطة لليرات السورية. مع شحّ الدولارات لدى المصرف المركزي السوري، يلجأ الأخير إلى تعويض هذا النقص من خلال طباعة كميات كبيرة من الليرات السورية، وهذا يسبب تضخّماً في سعر الصرف، ويؤثر على أسعار السلع التي ترتفع بدورها. هذا الأمر يضطرّ النظام إلى زيادة الرواتب (مثلما فعل مؤخراً) نتيجة التضخم، فتدخل القدرة الشرائية ضمن دوامة تسمى في علم الاقتصاد Wage-price spiral. أي كلّما تضخمت قيمة العملة اضطرت السلطات إلى رفع الرواتب، فترتفع الأسعار مجدداً.. فتدخل بذلك ضمن حلقة مقفلة لا مهرب منها من دون إحداث إصلاحات جذرية في بنية الاقتصاد الوطني.

4. الإجراءات الحكومية غير صحيحة لعملية ضبط سعر الصرف، كون تلك الإجراءات تكون غالباً منقوصة أو عاجزة، لا تأتي ضمن خطّة إصلاحية متكاملة ومستدامة وقابلة للتطبيق، ولهذا يشهد سعر صرف الليرة ارتفاعاً مخيفاً مع كل "خضّة" أمنية أو سياسية.

بينما العوامل الظرفية فهي كالتالي:

1. التعليق المؤقت للعقوبات، فبعد الزلزال رفعت الدول الغربية على رأسها الولايات المتحدة العقوبات المفروضة على النظام، من أجل السماح للمساعدات الإنسانية بالدخول إلى المتضررين. هذا التعليق وجد فيه المستوردون "فرصة ذهبية"، من أجل إدخال أكبر قدر ممكن من البضائع بأسعار أقل وأوفر من تلك التي يستوردونها عن طريق تجار ومستوردي الدول المجاورة (مثل لبنان). الزيادة في الاستيراد تعني زيادة في الطلب على العملة الصعبة، ولهذا شهد سعر صرف الليرة ارتفاعات كبيرة في الفترة التي عُلقت فيها العقوبات بعيد الزلزال.

2. تراجع التحويلات من الخارج إلى الداخل السوري في الأشهر القليلة الفائتة. فبعد أن أحجم أغلب الصرافين السوريين ومكاتب تحويل الأموال عن دفع تلك التحويلات للمتلقين في الداخل بالدولار الأميركي لصالح الليرة السورية، دفع هذا الأمر الواقع بالمغتربين السوريين (واللاجئين في الخارج) إلى الإمساك والاقتصاد بتحويل الأموال لذويهم، من أجل عدم خسارة الفرق بين أسعار الصرف.

وهذا بدوره تسبّب بمزيد من الشح في حجم الدولارات الداخلة إلى سوريا، وبالتالي تراجع حجم الكتلة الدولارية في الداخل.

3. "رهاب الدولار"، الذي يخلقه النظام في صفوف المواطنين السوريين. هذا "الرعب" من التعامل علناً بعملة الدولار، وتراكم آلاف القضايا والتوقيفات بتُهم "التعامل بالدولار"، جعل التداول في تلك العملة أشبه بـ Taboo، وهذا مضرّ جداً للاقتصاد وعملية الاستيراد والتصدير.. وهو من جملة الإجراءات القاصرة التي تصرّ عليها السلطات السياسية والنقدية السورية.

من المفارقات الغريبة التي تحدث اليوم، هي أنّ الليرة السورية عادت إلى التحسن بعد عودة العقوبات كما كانت عليه قبل الزلزال، لكن هذا لا يعني أنّ سعر صرفها سيواصل تحقيق المكاسب أمام الدولار، بل هي مرحلة مؤقتة وستعود الليرة من بعدها إلى الارتفاع

فتحرير المواطن السوري من هذا الكابوس سيسهم بشكل كبير في انفراج الأزمة ويدفع قدماً في وضع حدّ لأزمة انهيار الليرة السورية (بخلاف لبنان المتحرر كلياً من هذا الرهاب، ويُعتبر الدولار فيه برغم الأزمة بمنزلة العملة الرئيسية بدل الليرة وليس العكس).

من المفارقات الغريبة التي تحدث اليوم، هي أنّ الليرة السورية عادت إلى التحسن بعد عودة العقوبات كما كانت عليه قبل الزلزال، لكن هذا لا يعني أنّ سعر صرفها سيواصل تحقيق المكاسب أمام الدولار، بل هي مرحلة مؤقتة وستعود الليرة من بعدها إلى الارتفاع، خصوصاً في ظلّ انسداد الأفق السياسي في البلاد واستمرار العقوبات وكذلك استمرار تعنّت النظام السوري برفض الحلول السياسية التي ستكون مدخلاً للإصلاح الاقتصادي. ناهيك عن عجزه في تنفيذ إصلاحات تبدو قاصرة عن حلّ الأزمة بمعناها الشامل.  

ذلك بكل بساطة لأنّ الأزمة الفعلية.. هي استمرار وجوده!