icon
التغطية الحية

الهوية أو الهويات (السورية): بين السياسة والثقافة

2023.08.26 | 08:15 دمشق

آخر تحديث: 26.08.2023 | 08:15 دمشق

الهوية السورية
+A
حجم الخط
-A

لعصرنا الراهن أسماءٌ عديدةٌ، و"عصر الهويات" من بين تلك الأسماء. وفي السياق السوري المعاصر، يبدو طرح مسألة الهوية ملحًّا دائمًا. وكانت سوريا نموذجًا لـ "المحنة العربية" بوصفها "دولة ضد الأمة" بامتياز.

فوفقًا للأيديولوجيا الرسمية للدولة والحزب الحاكم والنظام السياسي القائم، (كانت) سوريا مجرد قطرٍ مؤقتٍ من أمةٍ عربيةٍ واحدةٍ ذات رسالةٍ خالدةٍ. وفي مقابل حديث عزمي بشارة عن فشل الدول العربية في إنشاء هُويةٍ وطنيةٍ محليةٍ (غير عربيةٍ)، يمكن الحديث عن سوريا بوصفها دولةً لم تسعَ أصلًا إلى إنشاء تلك الهوية. وفشل الدول القُطرية في تكوين الهوية المذكورة أو عدم سعيها إلى تكوينها أسهما في تأرجح هُوية "مواطنيها" بين الاستمرار في، أو الانزلاق إلى انتماءات ما قبل أو ما تحت الدولة (القبلية والعشائرية والطائفية...) وانتماءات ما فوق الدولة (العروبة أو الإسلام غالبًا). وبسبب قمع الهويات والتوجهات السياسية المدنية أصبحت المجال العام أرضًا خصبةً لحضورٍ أكبر للانتماءات أو الهويات المذكورة.

وعلى الرغم من أن قيام الثورة السورية عام 2011، شهد إرهاصات انبثاق هوية سورية سياسية بين السوريين المتعاضدين في الثورة على النظام، فقد تصاعد، تدريجيًّا، حضور مسألة الهوية بوصفها مشكلةً واقعيةً وإشكالية نظريةً، وظهرت هشاشة الدولة في سوريا بوصفها كيانًا سياسيًّا. ففي مقابل هذا الكيان، وفي قلبه، ظهرت أيديولوجيات هوياتية مختلفةً، منها ذو بعدٍ إثنيٍّ، كالأيديولوجيا الكردية، ومنها ذات بعدٍ دينيٍّ، كالإسلامية، ومنها ذات بعد مناطقيٍّ أو مذهبيٍّ أو طائفيٍّ إلخ. وازدادت هيمنة الخطاب الهوياتي إلى درجة تشكيل وتصنيف الناس وتوجهاتهم وانتماءاتهم ومؤسساتهم على أساس تلك "الهويات المتخيَّلة". والمفارقة، هنا، أن الميدان السياسي المفترض كونه ميدانًا مدنيًّا للنشاط الحر والانتماءات الإرادية أصبح خاضعًا لمعايير الانتماءات اللاإرادية القائمة على النسب الموروث، لا الانتساب الاختياري.

تفضي هيمنة سؤال الهوية في المجال السياسي إلى إعطاء الأولوية للجماعة على الفرد وللماضي على المستقبل وللنسب على الانتساب وللقدر على المصير

وفي مثل هذه السياقات المتوترة، أصبح طرح سؤال الهوية أو الهويات السورية، لا يعبر عن أزمةٍ في الوعي فحسب، بل سببًا في تعميق تلك الأزمة أيضًا. فالإجابات السياسية الممكنة لم تكن، ولا يمكنها أن تكون، عمومًا، في مثل الأحوال، إلا اختزاليةً وإقصائيةً. وفي تناغمٍ مقصودٍ أو غير مقصودٍ مع سياسات الهوية العالمية، تزايد حضور الهويات الجريحة المتأسسة على مظلومياتٍ تاريخيةٍ، والتي تقوم على التغاير والتضاد والتنابذ مع الآخر الظالم. وهذا هو حال الهويات والمظلوميات الطائفية والإثنية والجنسية النسوية والمناطقية إلخ. والهويات المتأسسة على المظلوميات لا يمكن لها إلا أن تكون هويات فرقةٍ وتناحر بين طرفين يُنظر إلى أحدهما على أنه خيِّرٌ لأنه مظلومٌ أو مظلومٌ لأنه خيرٌ، وإلى الآخر على أنه شريرٌ لأنه ظالمٌ أو ظالمٌ لأنه شريرٌ.

والهويات الجريحة هي أحجار الأساس والزاوية للنقاش المعاصر عن الهويات. فبسبب تعرض فئات اجتماعيةٍ مختلفةٍ للاضطهاد والتمييز السلبي في الماضي المستمر، لدرجةٍ أو لأخرى، في الحاضر، ثمة توجهٌ سياسيٌّ واخلاقيٌّ قويٌّ يرى ضرورة إعادة الاعتبار لتلك الفئات المضطهدة. ويشكِّل هذا الاضطهاد ماهية تلك الهويات ويفسر كونها مجروحةً. ومقابل التمييز السلبي الذي كانت تتعرض له تلك الهويات، أصبح هناك حديث عن ضرورة القيام بتمييزٍ إيجابيٍّ لصالح تلك الهويات. ولهذا السبب، ولأسبابٍ أخرى، أصبحت المظلومية تجارة مربحة، وتبارت الأطراف المختلفة في اللعب والتلاعب بها، لتحقيق أكبر قدرٍ ممكنٍ من الأرباح، وإلحاق أكبر قدرٍ ممكنٍ من الخسائر بالآخر، الظالم. ولهذا السبب، ينبغي الحذر من تحول أو تحويل الهويات المجروحة إلى "هويات معذورة"، كما يسميها حازم صاغية. فجرحها لا يعطيها عذرًا لكل فعلٍ أو رد فعلٍ من جانبها. وهذه المسألة ليست هامشيةً على الإطلاق، بل ربما كانت المسألة الأكثر أهمية في هذا الخصوص. فالخطاب الهوياتي المعاصر يتمحور حول هويات ترى نفسها، بحقٍّ أو بدونه، هوياتٍ مجروحةً. وانطلاقًا من هذا الجرح، الفعلي أو المزعوم، يتم تبرير وتسويغ كل أفعال أصحاب تلك الهويات وأقوالهم و إعطاؤهم العذر لتلك الهويات لتبني خطابٍ تمييزيٍّ مماثل للخطاب التمييزي السلبي الذي (كان) يمارس عليهم.

وتفضي هيمنة سؤال الهوية في المجال السياسي إلى إعطاء الأولوية للجماعة على الفرد وللماضي على المستقبل، وللنسب على الانتساب، وللقدر على المصير. وفي مثل هذا السياق، لا يكون الفتى من يقول ها أنا ذا، وإنما من يقول كان أبي. وإعطاء الأولوية للجماعة على الفرد هو عائق مؤكد أمام قيام أي ديمقراطية (ليبرالية). أما إعطاء الأولوية للماضي على المستقبل فيفتح هوةً لا قرار لها، ويجعل النقاش هدَّامًا أكثر من كونه بنَّاءً.

وفي ظل الانقسامات القطبية المثنوية في المجال السوري العام، استمر وجود ما يمكن تسميته، في السياق السوري، ﺑ "المثقف المخبر". فقبل الثورة كان هناك فئة من المثقفين المحسوبين على النظام وأجهزته الأمنية تحديدًا أو خصوصًا. ففي فترة "ربيع دمشق"، على سبيل المثال، كان هؤلاء المثقفون يحضرون ويحاضرون في منتدى الأتاسي وغيره، للدفاع عن النظام، عن طريق معارضة معارضته وشيطنتها. وبعد قيام الثورة، اتخذ نموذج المثقف المخبر مضمونًا جديدًا، ويتمثل في استسهال المثقف الذي يحسب نفسه من الثائرين على النظام باتهام المختلفين معهم بموالاة للنظام، بدون أن يجهد نفسه في تقديم أي دليلٍ أو حتى قرينةٍ تسمح بإطلاق مثل هذه الحكم الخطير الذي قد يفضي، في سياق الاستقطابات والتوترات الأيديولوجية والسياسية الراهنة، إلى القتل المعنوي على الأقل.

وفي إطار التسييس الشديد لسؤال الهوية، في السياق السوري المعاصر خصوصًا، يتم تحويل الاختلافات المعرفية ليس إلى اختلافاتٍ سياسيةٍ فحسب، بل إلى اختلافاتٍ اخلاقيةٍ أيضًا. وفي هذا الإطار يمكن للمثفف المخبر أن يرى، على سبيل المثال، أن الحديث عن دور الفن في تشكيل "الهوية الوطنية" سخيفًا وفي غير محله، وأن من يناقش مثل هذه المواضيع، هو إما من المؤيدين للنظام أو من البلهاء عديمي الإحساس والشعور. وكما هو حال المثقف المخبر في النظام الأسدي، لا يتورَّع المثقف الثوري المخبر عن تحويل الاختلافات الشخصية إلى خلافاتٍ حول الشأن العام، وفي الوشاية بالمختلفين معه إلى الجمهور، في حركةٍ شعبويةٍ ما زالت تجد من يتلقفها رغم ابتذالها وافتقادها إلى الحد الأدنى من الأسس المعرفية والمهنية المناسبة.

الحديث عن الهوية أو الهويات السورية بهذه الطريقة الاختزالية والأحادية يفقر النقاش المعرفي ويفضي إلى المزيد من الشرذمة السياسية. ومن هنا ضرورة إقامة الجدل الإيجابي او البنَّاء بين المعرفة والأيديولوجيا، بين النقاش الثقافي والنقاش السياسي، بين الوحدة والتعدد، بطريقةٍ تسمح بأكبر قدرٍ ممكنٍ من الاختلافات، بعيدًا عن استسهال التهديد بخطاب التخوين والاتهام بالتشبيح والموالاة. فهذا الاستسهال، يقتفي خطا النظام الأسدي، ويتبنى بعض آليات عمله، على الرغم من إعلانه معارضته له وثورته عليه.

ينبغي للحديث عن الهوية أو الهويات السورية أن ينوس أو يتأرجح بين قطبي "كارهي الهوية" الذين يرون الهوية شرًّا مطلقًا، و"عابديها" الذين يرونها معيارًا بل المعيار لما هو حقٌّ وخيرٌ وجميلٌ، بدون التماهي مع أيٍّ من هذين القطبين. وفي هذا النوس أو التأرجح، يمكن أن يتبين أن الهوية الوطنية لشعبٍ ما لاحقةٌ، غالبًا وعمومًا، على قيام الدولة، وليست شرطًا ضروريًّا أو مسبقًا، لنشوء هذه الدولة، وأن تلك الهوية لا تتعارض، بالضرورة، مع الهويات الفرعية، بل يمكن وينبغي لها التكامل معها في رؤيةٍ تراتبيةٍ وسياقيةٍ واضحة المعالم. كما ينبغي أن يبقى سؤال الهوية سؤالًا مفتوحًا، معرفيًّا وأيديولوجيًّا، وفاتحًا لآفاق المستقبل وصيرورة الزمن، بعيدًا عن التجلط أو التخثر في ماضٍ لا يراد له أن يمضي. ولا يمكن لجرح الهويات المجروحة أن يندمل بالتخثر المذكور، ولا بتحويلها إلى "هويات معذورة"، وإنما بالانتقال من الخطاب الهوياتي القائم على مثنويات جوهرانيةٍ سرمديةٍ جامدةٍ إلى خطاب حقوقيٍّ قائمٍ على قيمٍ وأفكارٍ مدنيةٍ، من منظومة حقوق الإنسان المعاصرة، يتبناها أو يرفضها أفرادٌ من كل الهويات.