النموذج الصيني واستلهامه عربيا

2023.01.16 | 06:40 دمشق

النموذج الصيني واستلهامه عربيا
+A
حجم الخط
-A

تبدو الدول العربية، اليوم، كأنها تكتشف النظام الصيني للمرة الأولى، فالزيارات والمؤتمرات والعلاقات الثنائية تشهد تصاعدا واضحا لكل المتابعين في الآونة الأخيرة، والغزل العربي بالصين ونموذجها أصبح مادة واضحة على وسائل التواصل الاجتماعي وعلى وسائل الإعلام الرسمية، ولاسيما في ظل الانكفاء الأميركي الذي باتت الدول العربية تستشعره، وخصوصا مع ابتعادها الواضح عن الوقوف إلى جانب الحلفاء التقليديين.

مع انهيار المعسكر الاشتراكي في نهاية القرن المنصرم، كانت الديمقراطية تحث الخطا في غير مكان ما من العالم، وبدا من الصعب الوقوف في وجهها، إذ ظهر أن البشرية وصلت أخيرا إلى قناعة مؤداها أن الانتخابات الحرة وحكم القانون والحرية والمساواة هي السبيل الوحيد لتحقيق الازدهار الاقتصادي. ولكن الاتجاه نحو تبني تلك القيم لم يكن لدى بعض الدول ناتجا عن الإيمان بها بوصفها مثلا عليا بقدر ما كان التفافا على القيم الليبرالية التي كانت تحقق انتصارات في غير مكان في العالم، ولتحقيق النهوض الاقتصادي لدى بعضها الآخر، فكانت المعادلة لدى هذه الدول على النحو الآتي: إن الدول الغنية تتبنى هذه المبادئ والقيم، وإن كان علينا أن نكون أغنياء، فيجب تبنيها. وقد عزز هذا التوجه أن الدول الشمولية أو غير الديمقراطية التي وصلت إلى تحقيق نسب نمو ودخل قومي مرتفعة سرعان ما توقفت عن النمو كما في حالة المعسكر الاشتراكي، أو اتجهت نحو تبني الديمقراطية كما هو حال الأنظمة العسكرية في جنوب آسيا وأميركا اللاتينية وجنوب أوروبا. وهذا يعني أن الطريق نحو التنمية كان يمر بمسار واحد فقط.

في بداية وصول بشار الأسد إلى السلطة، والحديث عن التحديث الذي بشر به، كان الكلام على النموذج الصيني واحدا من الركائز الأساسية التي استند إليها النظام السوري

لكن العقد الماضي حمل الكثير من المفاجآت معه، فقد تغيرت المعطيات، والمؤشرات تقول إن الدخل القومي للدول التي تصنف بوصفها دولا غير حرة في طريقه لتجاوز الدخل القومي للديمقراطيات الغربية، وهو تغير سريع من الهيمنة الديمقراطية إلى نهوض القوى الشمولية. وتعزى هذه الردة عن الديمقراطية أساسا إلى النموذج الصيني الذي بدا أكثر جاذبية في العقدين الماضيين.

إنصافا للحقيقة، فإن الدول العربية تبدو متأخرة عن النظام السوري أكثر من عقدين من عمر الزمان، فنحن نذكر أنه في بداية وصول بشار الأسد إلى السلطة، والحديث عن التحديث الذي بشر به، كان الكلام على النموذج الصيني واحدا من الركائز الأساسية التي استند إليها النظام السوري في مقاربة المسألة الأهم في أي حديث عن التحديث هي الحريات السياسية، ولكي يتجنب هذا المسار فقد تبنى إعلامه في تلك المرحلة فكرة الترويج للنموذج الصيني بوصفه النموذج الذي يمكن أن يحقق المعادلة التي يسعى إليها النظام، وهي الانفتاح الاقتصادي من جهة، وإغلاق المجال السياسي من جهة ثانية، من منطلق أن القضايا السياسية تأتي في مرحلة لاحقة لتحسين دخل الفرد السوري.

وفي هذا الإطار ظهر العديد من المسوغات في الإعلام السوري من جهة، وعلى ألسنة منظري النظام من جهة ثانية، وهي مسوغات تبدو وكأنها مازالت تحتفظ بالكثير من طزاجتها في الإعلام العربي الذي يبدو وكأنه صحا فجأة على النموذج الصيني.

 قيل يومها في الإعلام السوري: إن الدول الفقيرة تستطيع تحقيق نمو اقتصادي على نحو أكثر سرعة مع الأنظمة ذات التخطيط المركزي (اللفظ المخفف لاصطلاح الحكم الديكتاتوري)، لأن المجتمعات التي لا تمتلك ما يكفي من الموارد يمكن أن تقوم حكوماتها غير الديمقراطية بحشد كل ما تمتلك من موارد بدلا من إنفاق تلك الموارد الشحيحية على الانتخابات الدورية، ولاسيما أن الحكومات التي تستمر طويلا تستطيع متابعة الخطط التنموية طويلة الأمد. وبهذا المسار يمكن تحقيق التنمية من جهة، وبناء المؤسسات من جهة ثانية.

المسوغ الثاني الذي روج له وقتها أن الأنظمة الشمولية يمكنها أن تضمن الاستقرار في بيئات هشة، فالدول النامية هي على نحو ثابت معرضة للتشرذم، ووحدها القبضة الحديدة للسلطة يمكنها أن تضمن بقاء البلدان متحدة، لأن الانتقال الديمقراطي في مثل هذه السياقات يمكن أن يؤدي إلى استقطابات قائمة على أسس عرقية أو دينية أو جغرافية. وكانت البروبوغندا يومها أن تقول إن من الأفضل الانتظار ريثما نصل إلى مستوى من الوعي يمكننا من تحقيق الانتقال الديمقراطي.

أما المسوغ الثالث الذي قيل ضمنا وقتها، والذي كانت مضمرا في الخطاب الإعلامي، فهو أن النمو الاقتصادي يسهل التحول الديمقراطي، وبخاصة مع تحسين التعليم والصحة والتمدن، وتوسع الطبقة الوسطى، بحيث سيخلق التطور الاقتصادي الأرضية الاجتماعية للانتقال الديمقراطي. بمعنى أنه كلما تطور التعليم في المجتمع فإن هذا سيؤدي لا محالة إلى الرغبة في مساءلة الحكومات، فالوفرة النسبية للطبقة الوسطى ستكون حافزا نحو تحقيق انتقال ديمقراطي آمن.

النمو الاقتصادي في ظل غياب الرقابة وحريات الإعلام سيؤدي لا محالة إلى تجذر ثقافة الفساد التي بدأ الصينيون يعانون آثارها

غير أن ما يمكن إضافته إلى غرام الدول العربية بالنموذج الصين هو التشابه بين الدول العربية ذات الاقتصاد الريعي، ورأسمالية الدولة الصينية، فكلا الطرفين، العربي والصيني، تسيطر الدولة فيه على حركة الإنتاج والتصدير والاستيراد، سواء من خلال الشركات الخاصة بها أو من خلال الشركات التي يملكها رجال أعمال مقربون من الحكومات أو يعملون مقاولين مستترين لها، وهو ما يجعل التفكير الاقتصادي لدى الطرفين متماثلا أو متقاربا إلى حد كبير، على الرغم من كل الفوارق الإيديولوجية الأخرى.

لا داعي طبعا للإشارة إلى خطأ كثير من مسببات الغرام بالنموذج الصيني، فالدول الديمقراطية التي تمتلك آليات للرقابة والحريات والحوكمة لديها قدرة على تسريع عملية النمو أكثر من الدول التي تغيب فيها معايير الشفافية والحوكمة. غير أن أهم سبب في خطأ مثل هذا التوجه أن النمو الاقتصادي في ظل غياب الرقابة وحريات الإعلام سيؤدي لا محالة إلى تجذر ثقافة الفساد التي بدأ الصينيون يعانون آثارها، هذا بالإضافة إلى زيادة الفوارق بين الطبقات الاجتماعية. إن النمو الاقتصادي من دون إفساح المجال للحراك الاجتماعي للتعبير عن نفسه سيقود إلى انفجار اجتماعي يمكن مشاهدة آثاره في الحالة السورية على نحو واضح.

إن كانت بعض الدول العربية تعتقد أن النموذج الصيني هو المناسب لها، ردا على السياسات الأميركية في المنطقة، فيجب أن تتذكر أن ما وصلت إليه من تنمية كان أساسا بسبب قيامها بمحاكاة الغرب، وخصوصا أميركا، في كل شيء تقريبا.