النظام السوري وسقوط مقولة القادر على كل شيء

2023.01.14 | 05:33 دمشق

النظام السوري وسقوط مقولة القادر على كل شيء
+A
حجم الخط
-A

قد يرغب الإنسان في فهم السياسة إشباعا للفضول وحسب، أو لأنه يريد أن يشعر أنه مدرك ومستوعب لما يجري حوله في هذا العالم، لكن أهم الدوافع التي تجعل الإنسان مهتماً بفهم السياسة، أو لنقل مهتما بالتحليل السياسي هو رغبته بالوصول إلى أفضل الخيارات بين عدة بدائل متاحة. بعبارة أخرى؛ لأنه يريد أن يتصرف بحكمة بناء على المعلومات التي يستقيها من المحللين السياسيين، أو من خلال استنتاجاته الخاصة.

لأن السياسة من أعقد الموضوعات التي يواجهها الإنسان فهو غالبا ما يلجأ للاستعانة بما يقدمه المحللون المختصون لفهم ما يجري حوله، وترتفع أسهم هؤلاء بشكل مطرد عندما تضطرب الأجواء السياسية نتيجة النزاعات، وتصبح الأفكار والتنبؤات الصادرة عن هؤلاء مؤثرة في سلوك وتوجهات الجمهور في كثير من الأحيان، فقد يتخذ شخص ما قراراً بالنزوح، مثلا، اعتماداً على تحليل سمعه واقتنع به، وقد يتخذ قراراً باختيار عمل محدد بناء على التحليلات السياسية التي تقنعه، وهكذا..

النظام السوري الذي اعتاد التحكم بكل شيء، حتى بلغة القوم، يتعامل مع التحليل السياسي كجزء لا يتجزأ من الحرب النفسية

من هنا، فالتحليل السياسي، في الغالب الأعم، يحتوي على بعد نفسي مؤثر وفعال، لذلك يلاحظ أن النظام السوري الذي اعتاد التحكم بكل شيء، حتى بلغة القوم، يتعامل مع التحليل السياسي كجزء لا يتجزأ من الحرب النفسية. وبالتالي يلاحظ أن المحللين والأبواق المحسوبين عليه لا يصدر عنهم إلا ما يثير القلق والاضطراب لدى الخصوم، ويدفع الأتباع نحو الثقة التي تصل إلى حد الغرور.

من خلال آلته الدعائية استطاع النظام السوري، بشكل مباشر أو غير مباشر الترويج لفكرة محورية في خطابه الموجه للشعب السوري، وهي أنه "قادر على كل شيء"، وقد يستغرب البعض إذا قيل لهم: إن النظام السوري ليس لديه مؤيدون حقيقيون إلا ما ندر، بل هناك نسبة كبيرة من السوريين المؤمنين بتلك المقولة. فالنظام السوري كما روج عن نفسه؛ لديه المقدرة على شطب قارات بأكملها، ولديه المقدرة على تجاوز العقوبات، كما أنه يستطيع التغلب على المؤامرة الكونية وجعل المتآمرين عليه يهرولون نحوه طالبين الصفح والمغفرة، ومن ثم قطف ثمار النصر.

طوال السنوات المنصرمة؛ نجح النظام السوري إلى حد بعيد في تعبئة الذين راهنوا عليه ودفعهم نحو الثقة التي وصلت إلى مستوى الغرور، ولكنه بعد أن تعطل قانون "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، وتفرغ الناس لمراجعة أحوالهم وانتظار الوعود المعسولة؛ اكتشفوا بعد صبر طويل أن النظام الذي راهنوا عليه لم يعد قادرا على شيء. وأمام العجز عن مواجهة الأزمات بدأت تلك الأبواق تبرر تقصير الحكومة بالعقوبات والحصار الدولي من جهة وبقانون قيصر من جهة أخرى. ولعل تلك المبررات والانتقال من مرحلة التجبر إلى مرحلة الشكوى والنحيب أسقطت مقولة "القادر على كل شيء". تلك المقولة التي كانت الفيصل الأهم في انحياز ما يسمى "المؤيدون" لصالح النظام.

لقد أصبح السوريون في الداخل يشعرون أن النظام الذي تسلط على رقابهم لعشرت السنوات اقترب كثيرا من مرحلة الانعدام التام للقوة، تلك المرحلة التي قاربها "روبرت أ. دال" في كتابه "التحليل السياسي الحديث" من خلال عرض بعض الأمثلة عن الأفراد المعتقلين في ظروف لا إنسانية؛ من أمثال المسجونين في معسكرات الاعتقال النازية والسوفييتية في الثلاثينيات والأربعينيات. بعد سقوط تلك المقولة أصبح تفكير السوريين مختلفاً، وأصبحت نظرتهم تجاه النظام الحاكم مختلفة، وباتوا يدركون تماما أن النظام الذي يحكمهم ليس أكثر من معتقل لدى جهات باتت هي الأخرى حبيسة أزماتها الخاصة، ولم تعد قادرة حتى على تقديم مقنن الطعام لمعتقلهم.

النظام السوري يلفظ أنفاسه الأخيرة، وإن الذي يبقيه على قيد الحياة هو قرار دولي بمحاولة تجنب أن يكون سقوطه سقوطا حرا

ومن مظاهر السقوط المدوي لبروباغندا النظام التي تروج لعظمته؛ سقوط أهم الخطوط الحمراء المتمثلة بمقولة "الرئيس جيد لكنه محاط بثلة من الفاسدين"، وما اعتداء ثوار السويداء على صور الرئيس إلا رسالة مفادها: لا علة سوى أنت. وما رسالة الممثل السوري وضاح حلوم التي يرجو فيها سيده الرئيس بأن يجد لهم حلا سوى طلب بالمغادرة بأسلوب مبطن عكسته تعابير وجهه التي حملت مزيجا من الخوف والألم والإعياء، بل وبحسب بعض الأخبار الواردة من الداخل: إن شتم الرئيس أصبح عادة دارجة على كثير من الألسن.    

كل المؤشرات تقول: إن النظام السوري يلفظ أنفاسه الأخيرة، وإن الذي يبقيه على قيد الحياة هو قرار دولي بمحاولة تجنب أن يكون سقوطه سقوطا حرا؛ في محاولة لتلافي التداعيات التي يمكن أن تعقب هذا الشكل من أشكال السقوط. والنظام السوري يعلم بهذا القرار ومؤمن به لدرجة اليقين. لذلك، هو يحاول استغلال هذا الموقف بمزيد من التعنت، ولسان حاله يقول: كل السوريين لدي رهائن، وإن أردتم إنقاذهم فأنقذوني وإلا فالسقوط الحر هو البديل الوحيد المتاح لدي.

بعد أن سقطت مقولة "القادر على كل شيء"، وسقطت معها كل الخطوط الحمراء، لن يكترث السوريون بقرارات دولية ولن ترهبهم قضية التداعيات، فالغضب اقترب من ذروته، وأغلب الظن أن ساعة الحساب اقتربت. لكن، يبقى هناك استثناء وحيد تلخصه العبارة الدقيقة جدا: المستقبل دائما مجهول.