النظام السوري والتاريخ: عندما ترك العماد شفيق فياض التقية

2022.02.24 | 05:35 دمشق

173581-616358173.jpg
+A
حجم الخط
-A

قادتني المصادفة قبل 2011 إلى لقاءٍ عابرٍ بالعماد شفيق فياض ديب (توفي عام 2015). ولمن لا يعرفه فهو من كبار ضباط حافظ الأسد ومن مواليد منطقته نفسها، تسلم عدة مناصب أهمها قيادته المزمنة للفرقة الثالثة في "الجيش السوري". اشتهر في الثمانينيات بمساهمته في عمليات القمع والقتل، وخاصةً في مدينة حلب التي كلفه "الأسد" بإخضاعها كما كان مساهماً رئيسياً في مجزرة حماة إلى جانب رفعت شقيق الأسد. كان آخر مناصبه نائباً لوزير الدفاع حين قادتني الأقدار إليه للتوسط في تأجيلي عن السوق للخدمة العسكرية لإكمال دراساتي العليا. وفي عام 2011 استدعاه بشار الأسد من التقاعد وعينه مستشاراً له، غالباً لخبرته في القمع، كما عين ابنه اللواء غيث ديب رئيساً لجهاز الأمن السياسي عام 2021.

استقبلني فياض بتوصية من توسط لي عنده في مكتبه بأحد المباني التابعة لوزارة الدفاع. ودون أن يسألني طلب من حاجبه جلب الضيافة! ثم دعاني للجلوس إلى طاولة دائرية في وسط مكتبه، وما لبث أن أتى الحُجاب/ الجنود بالضيافة التي كانت مشروباً كحولياً وتوابعه من "المازة"!! ولا يشعرن أحد بالغرابة كما شعرت وقتها، فشرب الكحوليات وما يتبعه ليس مسألة شخصية في "الجيش السوري الباسل" بل هو أحد مقاييس الوطنية والولاء.

شرب الكحوليات وما يتبعه ليس مسألة شخصية في "الجيش السوري الباسل" بل هو أحد مقاييس الوطنية والولاء

ألح عليَّ "سيادة العماد" أن أشاركه الشراب فاعتذرت، استغرب ممتعضاً بينما همس مدير مكتبه، العميد الركن، في أذني بضرورة مشاركتهم الشراب حتى يلبي لي ما جئت من أجله. ولما امتنعت اتهمني فياض ضاحكاً بأنني أكرهه وأريد دخول الجنة وحدي. وما لبث أن جاء ضابط زائرٌ ومعه ابنه فانضما إلى الشراب أيضاً. ولم تجدِ محاولتي الانصراف، فقال لي فياض بلهجة آمرة: اجلس، وقد بدأت الخمرة تفعل فعلها في رأسه، ليبدأ الحديث عن التاريخ وربما اختبار معلوماتي أو وطنيتي المشكوك فيها أصلاً بعد أن سألني من أول لحظة: "من وين هنت؟". ففي سوريا يحدد كثيرون مواقفهم منك بناء على منطقتك التي تدل غالباً على طائفتك.

 قال لي "سيادة العماد": "هات لشوف. أنت تُحضر دكتوراه بالتاريخ، ما رأيك بأبو لهب؟". استغربت ما الذي أتى بسيرة أبي لهب على باله، ولم أكَدْ أقول له لقد ذُكر في القرآن أنه.....، حتى بادرني بالقول: "مو مظبوط هالحكي. أبو لهب كان كويس". ثم انتقل يريد الحديث عن بعض الصحابة بما يوحي بالطعن بهم كما في الروايات التي يرددها الطائفيون المتعصبون. ولم يجدِ نفعاً إعلامه أنني مختصٌ بالتاريخ الحديث والمعاصر وليس الإسلامي، ولا محاولة مدير مكتبه الصاحي ترقيع الموضوع وإبعاده عن هذا الحديث الحساس الذي بدا أنه سمعه منه سابقاً، فوبخه بكلمات اعتيادية في "الجيش العقائدي"، قائلاً له بالحرف: "أبقى فيه تقية يا جحش" أي لا تقية بعد اليوم. قال "يا جحش" للعميد الركن الذي رد عليه "أمرك سيدي"، فقلت إذا كان هذا حال العميد فماذا سيفعل بي هذا المجرم الهائج إذا فتحت فمي.

ولم أعرف كيف هداني الله إلى أخذه بعيداً إلى موضوع آخر له علاقة بتاريخه شخصياً، فقلت له إن باتريك سيل ذكرك في كتابه "الأسد الصراع على الشرق الأوسط"، وما إن سمعني حتى بدأ بشتم سيل ومصطفى طلاس الذي كان وقتها وزيراً للدفاع وفياض نائباً له. وقال إنهما لم يقولا الحقيقة، وإنه كتب مذكراته التي توضح حقيقة الأمور. فقد كان يعتقد أن حقه هُضم فيما كُتب عن دوره في النظام.

تكلم بطريقة تنم عن شعور بعدم الرضا لما آل إليه حاله زمن الأسد الابن رغم "أمجاده" التي بدأ بالحديث عنها متنقلاً من موضوع إلى آخر. ومنها تاريخه خلال فترة الثمانينيات الدموية للسوريين وكان وقتها برتبة لواء قائداً للفرقة الثالثة المدرعة بصلاحيات دون حدود منحه إياه الأسد لتثبيت سلطته. تكلم عن بطولاته في حلب التي قاد فرقته للسيطرة عليها بالحديد والنار، ومنها الإعدامات وتعذيب نساء سلمهم أحد عملائه المندسين بين الإخوان المسلمين. حلب التي "وقف فيها فياض على برج دبابته وأخبر أهل المدينة بأنه مستعد لقتل ألف رجل في اليوم حتى يخلص المدينة من جرذان الإخوان المسلمين" كما يقول باتريك سيل، ولإثبات جدية كلامه ارتكبت العديد من المجازر، تمَّ فيها جمع رجال مدنيين بشكل عشوائي وإعدامهم في مكانهم. ولم يتكلم عن أمجاده في منطقة القلمون التي كان يسيطر عليها لتمركز فرقته فيها سوى ما فعلوه من نتف لحية شيخ في مدينة القطيفة. ولم تنته تلك الجلسة إلا بنهاية الدوام الرسمي وانصراف نائب الوزير المخمور  مستنداً إلى رجاله إلى سيارته.

بعد الخروج من تلك الورطة بدأت بالتفكير فيما قاله، وأي بلاء يعيشه السوريون مع هكذا قادة يحملون تعصباً وأحقاداً تاريخية أفرغوها على شعب لا ذنب له

بعد الخروج من تلك الورطة بدأت بالتفكير فيما قاله، وأي بلاء يعيشه السوريون مع هكذا قادة يحملون تعصباً وأحقاداً تاريخية أفرغوها على شعب لا ذنب له سوى تصديق أنه بات يعيش في دولة المواطنة التي بناها آباء الاستقلال، مما سمح لهؤلاء وغيرهم بالدخول في إدارات الدولة والجيش والترقي إلى أعلى المناصب حتى سيطروا على الدولة ومؤسساتها باسم الإيديولوجية القومية العربية والأفكار الاشتراكية، لنكتشف في ما بعد أنهم يمارسون "التقية" قبل أن يصرح بذلك فياض بلحظة سُكر.

والسؤال الذي يطرح نفسه كيف يمكن إرساء حل في سوريا مع هكذا نظام وجيش تقوده وتسيطر عليه عقليات بهذه الخلفيات، تعتقد أن التضامن الطائفي أساس بقائها؟ والأسوأ أن الأمر لا يقتصر على الجيش بل وصل إلى كل المفاصل. فليس أدل من ذلك أن ترى أساتذة جامعيين مختصين ينظرون إلى التاريخ وشخصياته ويناقشونها بمنطق فياض، والجميع مضطرٌ لمجاراتهم بالصمت خوفاً، وحتى الصمت صار يحسب على صاحبه، ومن جاراهم ضارباً بالأكاديمية عرض الحائط اعتبروه منافقاً لهم. فما الحل؟