النظام الأسدي وتقاليد النهب والتعفيش

2023.06.20 | 06:10 دمشق

النظام الأسدي وتقاليد النهب والتعفيش
+A
حجم الخط
-A

بعد هزيمته في الجولان في حرب الخامس من حزيران، بدأ يعربد في شوارع دمشق ويستعرض قوته وعدوانيته نحو كل من توجه له بالنقد من رفاقه وأولياء نعمته، نقد يتعلق بمسؤوليته الخطيرة في الانسحاب من الجولان وترك تحصيناته الرهيبة التي كان يمكنها تأمين فرص المقاومة والقتال والدفاع عن الحدود لأشهر طويلة، حتى في ظل التفوق الجوي الإسرائيلي. أمر وزير الدفاع حافظ الأسد الجيش السوري بالانسحاب الكيفي ببلاغه رقم 166، بدلا من أن يقاوم ويدافع عن شرف العسكرية وشرف الوطن، كي لا يقال إن المحتل دخل الجولان من دون مقاومة، وكأنه لم يسمع بيوسف العظمة ولا بمعركة ميسلون. على العكس، بدلا من أن يستقيل أو يحاكم، بدأ محاولاته بالقفز إلى قمة السلطة.

في تلك الفترة، 1968ـ 1970، كنا طلبة في جامعة دمشق، نرى قطعان ما سمي بـ"سرايا الدفاع" ونسمع بتعدياتهم على حقوق الناس، وتناقل السوريون قيامهم بالاعتداء على الآثار والقبور ونهب محتوياتها. تم تشكيل "سرايا الدفاع" خارج إطار الجيش النظامي، ومثلها "الأمن الجوي" بمبادرة من حافظ الأسد، وهي أقرب ما تكون إلى تشكيل الميليشيات الفردية، تأسست لخدمة الجموح السلطوي منذ ستينيات القرن الماضي.

أصبحت تعديات هذه الميليشيات وتجاوزاتها، خصوصا فيما يتعلق بالسيطرة على بعض الأماكن الأثرية ونهبها بطريقة بدائية، أدت إلى تخريب كثيرٍ من الأوابد السورية، إذ تم "تفتيشها وتقليب حجارتها بالبلدوزرات"، ولعل المثال الأبرز على هذا السلوك الشائن هو تدمير أحد القصور الأثرية القريبة من قرية خازمة، في جنوب شرقي محافظة السويداء بعد أن سيطرت عليها سرايا الدفاع.

تعفيش مرحلة بشار يعبر عن جوع فظيع يستحيل إشباعه بكل برادات سوريا وغسالاتها وبلاط بيوتها وكابلاتها، جوع موغل في التاريخ لم ولن يشبع من السلب والنهب

برز التعفيش المنهجي لبيوت السوريين، كوسيلة للنهب والإذلال، في المواجهة بين الشعب والسلطة الأسدية في نهاية السبعينيات ومطلع الثمانينيات، ووصل إلى أوجه في عام 1982 عند استباحة مدينة حماة. في الموجة الأولى قام "جنود الأسد" بنهب كل ما خفّ حمله وغلا ثمنه، خاصة المصاغ الذهبي، من البيوت التي استباحوها. حتى متحف حماة تم نهبه وتعفيش مقتنياته ومستودعاته واقتلاع الأفريز الذهبي الذي يزين السقف في بعض غرف المتحف. بعد تكرار زيارتي لهذا المتحف، أفصح بعض العاملين عن بعض ما حدث من نهب مقتنيات المتحف ومستودعاته، وبعد عشر سنوات استمر ترميم الأذى الذي خلفته القدم الهمجية التي استباحت هذا الصرح الثقافي الجميل.

في ذلك الزمن لم نسمع شهادات عن تعفيش البيوت المستباحة، أو أن التعفيش لم يبلغ من الوضاعة والانحطاط ما بلغه على يد الوريث، فتعفيش مرحلة بشار يعبر عن جوع فظيع يستحيل إشباعه بكل برادات سوريا وغسالاتها وبلاط بيوتها وكابلاتها، جوع موغل في التاريخ لم ولن يشبع من السلب والنهب. أصبح التعفيش عملا ممنهجا لمزيدٍ من الإذلال والتحطيم المعنوي، كان يتم اختيار "كتيبة التعفيش" بعد كل تدمير وتهجير للأهالي.

يضرب التعفيش جذوره في النظام الأسدي، ألم يأمر رفعت جنوده بنهب مدينة دمشق حين تبدأ ساعة الصفر في عام 1984؟ إذ كان ينوي الانقضاض على السلطة في أثناء مرض أخيه، أعطى جنوده فترة 3 أيام لاستباحة أموال السوريين ونسائهم. وبعد أن توصل الطرفان إلى حلّ "سلمي" قام بتعفيش البنك المركزي، ولم يترك به دولارا واحدا. وعندما غادر فرنسا على عجل هربا من حكم قضائي، ترك في مستودعات بيوته، مئات الصناديق التي تحوي الآثار واللقى المنهوبة من التراث الحضاري السوري.

معاينة البيوت المحروقة

في خريف 2012، ترامى إلى مسامعنا بأن قوة من الجيش "العربي السوري" معززة بالأمن، أحرقت بعض البيوت عندما هاجمت قرية الشياح القريبة من بلدتنا الواقعة إلى الشمال من محافظتي درعا والسويداء. لم نكن لنصدق أن جيشا وطنيا يمكن أن يفعل ذلك، كنا نظن أن هناك حملة للتضليل والإشاعات لخلط الأوراق. هذه قرية بدوية محدثة، تشكل نموذجا للتحول من البداوة إلى الاستقرار، تبعد عن بلدتنا عدة كيلومترات، فيها بيوت بائسة، إسمنتية مؤلفة غالبا من غرفتين ترتفع فوق مصبات صخرية، يعمل معظم أصحابها بالرعي وقليل منهم بالزراعة. قررت دعوة بعض الأصدقاء من مختلف مناطق المحافظة لمعاينة ما حدث وتلمس الحقيقة.

أخذنا سيارة قاصدين البلدة المنكوبة، استقبلنا من قبل مجموعة من الرجال متوسطي الأعمار وكبار السن، في غياب لافت للنساء والأطفال، كانت ملامح الرجال تحكي قصة ما حدث، يبدو عليهم الكآبة والقهر، لقد فقدوا كل شيء دون أن يرتكبوا أي ذنب، تمّت تصفية اثنين من أهل القرية بتهمة الانتماء للعصابات المسلحة. عند الاستفسار عما حدث قيل لنا إن قوة من الجيش وصلت أولا، لم يجدوا إلا المسنين، طمأنهم الضابط الشاب وطلب منهم البقاء في بيوتهم فهم غير مقصودين، الهدف هو مطاردة العصابات المسلحة، ثم غادروا باتجاه اللجاة حيث يوجد المسلحون.

بعد فترة قصيرة وصلت قوة من المخابرات برفقة دليل مغطى الوجه، أشار إلى ستة بيوت، اتهم أصحابها أنهم استقبلوا جنودا فارين وقدموا لهم الطعام، اعترفوا بهذه التهمة قائلين إن بيوتنا مفتوحة لكل عابر سبيل نقدم له الطعام والضيافة من دون سؤاله عن وضعه إذا كان منشقا أم لا، وهؤلاء مروا من هنا ولم نعد نراهم، لماذا نعاقب هكذا؟

طلب رجال الأمن من أصحاب البيوت رفع الأيدي في مقابل جدار البيت، ثم فتشوا البيوت وحملوا الأغراض التي يريدونها في سياراتهم قبل إضرام النار في البيوت، كما أحرقوا الأشياء التي لم يتمكنوا من تحميلها، من ضمنها شبكة ري بالتنقيط ودعها أحد المستثمرين، وأطلقوا النار لتعطيل جرار زراعي مركون في أرض الدار، كان الهدف واضحا، التخريب وإلحاق الأذى واستهداف لقمة عيشنا.

روى لنا أبو فلاح أنهم نهبوا، إضافة إلى عفش المنزل، 80 جرة غاز مع شاحنة تعود لابنه معتمد الغاز والعبوات الفارغة لأهل البلد. أضاف أحد كبار السن قائلا: بعد أن حمل المساعد كل ما أراد من البيت، نظر إلى فناء الدار حيث كانت دجاجاتنا الأربع، طاردها وأمسك بها وقيّد رجليها ووضعها في سيارته، وكرر قائلا "والله أربع دجاجات يا إخوان". هكذا أصبح أصحاب هذه البيوت في العراء لا يملكون شيئا، وهم يعيشون مأساتهم وحدَهم في عزلة عن العالم. حاولنا الشدّ على أياديهم وتعهدنا لهم بوقوفنا إلى جانبهم وأكدنا تصميمنا على تقديم المساعدة في أقرب وقت.

تم إطلاق العنان لمجموعات من المتعطشين للنهب والسلب الذين تمادوا في تشليح الناس حتى في أيام "السلم" قبل الثورة، فما بالنا الآن بعد أن أصبح السلاح سيد الموقف

ذكرني هذا الموقف بأهلنا عندما اقتحم الجيش الفرنسي بلدتنا داما (كانت مركز تموين للثوار) بعد أن انكفأ الثوار إلى اللجاة، في أعقاب الثورة السورية الكبرى عام 1925. دخل الجيش الفرنسي ومعه بعض المتعاونين من بدو المنطقة، قاموا بنهب كل شيء الفرشة والتموين ولم يتركوا شيئا. جيش الاحتلال الفرنسي ترفع عن مثل هذا الفعل المنحط، فأوكله للمتعاونين، لكن ميليشيات آل الأسد أوغلت في الخسة والانحطاط إلى درك غير مسبوق.

تم إطلاق العنان لمجموعات من المتعطشين للنهب والسلب الذين تمادوا في تشليح الناس حتى في أيام "السلم" قبل الثورة، فما بالنا الآن بعد أن أصبح السلاح سيد الموقف، حيث تحولت عمليات نهب أثاث البيوت وكل ما يقع تحت أيديهم من أرزاق السوريين هدفا لعملياتهم، لدرجة دفعت بعض الضباط الروس، بعد تلقي شكوى الأهالي، لإلقاء القبض على مجموعات منهم والطلب إليهم الانبطاح أرضا في موقف من الذل والهوان يبين تفوق المحتل الروسي أخلاقيا على المحتل المحلي الفاقد لكل قيم الشرف والأمانة.