icon
التغطية الحية

المفكر السوري "لوقيان السميساطي".. مبتكر الخيال العلمي ورائد الأدب الساخر

2022.02.21 | 15:45 دمشق

lwqyan-_tlfzywn_swrya.jpg
لوقيان
+A
حجم الخط
-A

"الجرأة هي أفضل قناع للإحباط". تعبر هذه المقولة عن جانب من شخصية صاحبها، أحد المفكرين الأوائل ممن لم تعرف كتاباتهم وأفكارهم المحاباة أو المواربة. فيلسوف سوري انتقد الفلاسفة أنفسهم وتجرّأ في طرح المحظور، فسطع نجمه في أوروبا وأفل في بلاده، وتجاهلته الأجيال اللاحقة.

لوقيان السميساطي (120/125م- 185م) أو "لوقيانوس السوري" كما أحبّ أن يلقب نفسه في أحد أشهر كتبه "الآلهة السورية" الذي يعد واحداً من أهم المراجع عن تراث سوريا وثقافة شعبها. وربما عبّر عن ذلك كمتمرّد متشبّث بهويته السورية في وجه عنصرية الثقافة الهلنستية (الرومانية- اليونانية) التي سادت سوريا في ذلك الوقت.

 

Picture6_0.jpg
لوقيان السميساطي

 

عاصر لوقيانوس الذي برز أثره واضحاً في القارة الأوروبية، ثلاثة من أباطرة الرومان، هارديان، أنطونيوس بيوس، وماركوس أوريليوس، وعرفت هذه الفترة بالذهبية في تاريخ الإمبراطورية الرومانية، على صعيد الحركة الأدبية والثقافية التي ينتمي إليها لوقيانوس، وينظر إلى تلك الفترة كإحدى ركائز الحضارة الغربية الحديثة.

سنقرأ اسم لوقيانوس عند البحث عن تاريخ الأدب الساخر كأحد أوائل مبتكري ذلك الأسلوب، وسنجده أول من كتب قصص الخيال العلمي(1) من خلال رواية اكتسبت شهرة عالمية وترجمت باسم "True Story"، صور فيها لوقيانوس رحلة إلى القمر، وأجواء الحرب بين كواكب الفضاء ومخلوقاته الغريبة(2).

 

Picture4_2.jpg

 

ينسب إلى لوقيانوس 82 مؤلفاً، منها ما هو مثبت ومنها ما يشك في صحة نسبته إليه(3)، وأبرز ما ترجم منها إلى العربية كتاب "مسامرات الأموات"، حيث يهبط لوقيانوس في حوارت متخيلة بين الآلهة والملوك والفلاسفة وشخصيات بارزة، إلى عالم الموت. تأخذ محاوراته بعداً كوميدياً تشبه ما قدمه بعد قرون أبي العلاء المعري في "رسالة الغفران"، وما قدمه دانتي في "الكوميديا الإلهية"، إضافة إلى كتاب "أعمال لوقيانوس السميساطي المفكر السوري الساخر" وفيه مختارات من أعماله، وكتاب "محاورات لوقيانوس السميساطي".

 

Picture3.jpg

 

توصف محاوراته بأنها هجائية وقصيرة وفيها الكثير من الجد والسخرية، ودائماً ما تضمر نية أخلاقية وفلسفية، وجعل في بعضها من الآلهة أبطال الحوارات.

ينحدر لوقيانوس من مدينة سميساط التاريخية الواقعة حالياً جنوبي تركيا وشمال مدينة منبج السورية على الطرف الآخر من الحدود بين البلدين. وفي ذلك الحين، كانت سميساط تتبع لأراضي "الدولة السورية" التي كانت خاضعة لحكم السلوقيين بعد وفاة الإسكندر المقدوني

لوقيانوس.. من السفسطة إلى الفلسفة

ما امتلكه لوقيانوس قبل اكتسابه الشهرة الواسعة، من بلاغة خطابية وقدرة على التأثير في الجموع، جعلت منه مفوّهاً استثنائياً، في وقت انتعشت فيه مهنة الخطابة أو السفسطة، فكان كغيره من الخطباء محامياً ومرافعاً عن العملاء في محكمة أنطاكية، ثم سفسطائياً وكاتباً متنقلاً بين أيونيا (قرب إزمير التركية)، وأثينا اليونانية، وبلاد الغال (فرنسا)، وروما التي تحددها المراجع التاريخية عن لوقيان، بأنها محطته الأولى نحو الفلسفة(5) بعد أن تخلى عن السفسطة في الأربعين من عمره. وكتب مؤلفاته باللغة اليونانية القديمة علماً أن لغة المخاطبة في سوريا آنذاك كانت السريانية.

ومن باب نقد المشكلات الأخلاقية والتشهير بالعيوب الشائعة، بغلاف السخرية القريبة من الكوميديا، عُرِف لوقيانوس. وما ميّزه هنا، صعوبة تصنيف أفكاره ضمن اتجاه فلسفي ما، وهو الذي طالت سهام نقده وسخريته الفلاسفة أنفسهم وخاصة الأفلاطونيين والرواقيين الذين اعتبرهم مشجعين على الخرافة. بينما ذهبت بعض الدراسات إلى جعله قريباً من المدرسة الأبيقورية باعتباره ميالاً لعدم الاعتراف بوجود آلهة، وتهكمه المستمر على الخرافات والأساطير.

عن هذه الجزئية، يحدثنا الباحث في الفلسفة المعاصرة والأستاذ في جامعة "السوربون" بباريس الدكتور خلدون النبواني، الذي يرى أن صعوبة تصنيف لوقيان "تتأتى من كونه تناول قضايا فلسفية بأسلوب أدبي خالص، لكنه لم يقدم أفكاراً جديدة في الفلسفة، إلا أنه برع في ميدان البلاغة نقيض الفلسفة التي أسسها أفلاطون، فهو إذن كاتب ساخر ولاذع في نقد مقاسات عصره، ولهذا يعتبر –نوعاً ما- المؤسس لهذا النوع من الأدب الفلسفي".

ويستدرك النبواني حديثه بالقول: "لا يجب المبالغة في مكانة لوقيان الفلسفية، فهي تظل متواضعة أمام إبداعه الأدبي البلاغي وجرأته وأسلوبه، وأنه لا يخرج عن تيار البلاغة المزدهرة في عصره، متميزاً بأسلوبه الأدبي".

أما الروائي والمؤرخ السوري خيري الذهبي، فيعتبر أن "أكثر المستفيدين من الحضارة الهلنستية في أراضي سوريا القديمة (الكبرى)، هم الفلاسفة والفنانون، واستطاع لوقيان أن يتحول إلى فيلسوف وكاتب روائي نجم في ذلك العالم وتلك البقع من الأرض. كانت كتبه تنتقل مثل الريح عبر تلك البلاد، وأفكاره تتردد وقصصه تتناقل حتى دون ذكر اسمه. نوادر وخرافات وقصائد وأساطير نسجتها مخيلة الروائي لوقيان، وعبّأها بفلسفته التي سخرت بادئ ذي بدء من الأديان والآلهة، وعجزها عن مساعدة الإنسان وإنقاذه من بؤس معيشته وقسوة مصيره".

لوقيانوس.. وأدباء النهضة الأوروبية

في كتابه  lucian and the latins، يتتبع "ديفيد مارش" كيف استحوذت مواضيع لوقيان وكتاباته على الخيال الأدبي مع بداية عصر النهضة في أوروبا، خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر، ويبرز فولتير كأحد أدباء عصر النهضة الكبار المتأثرين بفكر لوقيان، ويضاف إلى القائمة وفق العديد من الدراسات كل من مايكل أنجلو وشكسبير ودانتي وغيرهم.

النبواني خصّص فولتير كأحد أبرز المتأثرين بفكر لوقيان، أما عن انعدام أثر الأخير في حضارات بلاده اللاحقة، فذلك يتأتى من "أن كتابة لوقيان باللغة اللاتينية اليونانية، جعلت منه كاتباً يونانياً، ولم يكن هناك حاضنة فعلية له في سوريا لهذا استمر أثره ضمن الإرث اليوناني الروماني دون السوري، السرياني ومن بعده العربي".

 

Picture2_1.jpg

 

بينما يقدم الذهبي وجهة نظر إضافية في أسباب انقطاع سيرة لوقيان في الشرق الأوسط المنتمي إليه، إذ يرى أن "لوقيان كان حاداً صارماً في نقده وسخريته من الأديان والآلهة المتعددة والتماثيل والقرابين وحتى من السياسيين، فتولّدت ضده عداوات كبيرة من الكهنوت والساسة الذين استشعروا فيه خطراً على سكونية عوالمهم".

يضيف الذهبي أن كتاب النهضة في أوروبا عملوا على "إعادة اكتشاف الكتاب والفلاسفة والمسرحيين في حركة ثقافية امتدت من شمال القارة الأوروبية وحتى جنوبها، وكان مركزها فرنسا. وهناك في باريس تأثر فولتير بالطبع بما اكتشفه وقرأه من كتب مذهلة لـ لوقيان، وتجلى هذا التأثير في أعمال فولتير الكثيرة التي تنتقد الكنيسة، وفي أعماله التي تستكشف اليونان وشخوصها الأسطورية مثل أوديب والكترا".

بينما يجد الكاتب والباحث "تيسير خلف" أن سر هذا التأثير المتباين يكمن في أن "الغرب يعتبر نفسه وريث الحضارة اليونانية، كما أن لوقيان يعد جزءاً أساسياً من الأدب اليوناني".

ولا يعتقد خلف أن يكون العرب قد تأثروا بفكر لوقيان بسبب أن أعماله لم تترجم قبل القرن التاسع عشر، ولكون الرجل كان "مندمجاً في الحضارة الهلنستية التي كانت مسيطرة في تلك الفترة".

وحول أسباب غياب تأثير لوقيان على حضارات سوريا، يرى الباحث في التاريخ السوري "أمجد سيجري"، أن ذلك مردّه في الأساس إلى "التهميش الديني سواء المسيحي أو الإسلامي" الذي أدى إلى طمسه لقرون، وأن عداء لوقيان للفكرة الدينية أدى إلى "عدم اهتمام السريان الممثلين بالكنائس الشرقية فيه"، ويشدد سيجري في سياق آخر على وجود نزعة قومية تجاه سوريا لدى لوقيان.


 

  1. روبرت ليبلينج" و"آيفي جوهانسن" - aramcoworld.com - بحث بعنوان ?What's so Funny About Lucian the Syrian
  2.  "فرانك ريدموند" - دراسة مطولة - the lucian of samosata project
  3.  كتاب مسامرات الأموات - ترجمة إلياس غالي - المنظمة العربية للترجمة بالتعاون مع اليونسكو.
  4. أطروحة "ستيفان توماس لوس" لجامعة هيوستن - 2020 - IDENTITY IN THE WRITINGS OF LUCIAN OF SAMOSATA