المعرفة والأيديولوجيا في المسألة السورية

2018.07.08 | 00:07 دمشق

+A
حجم الخط
-A

ما يميز المعرفة عن الأيديولوجيا هو انتماء الأولى إلى حقل الوعي الموضوعي، القائم على المنطق، أو ما يسمى علمياً بالمنهج، بينما تنتمي الثانية إلى حقل التصورات والرؤى الرغبوية، والمعرفة بالضرورة نسبية، تنتمي إلى زمنها، وتتكئ على ما أنجز في قبلها، وتفتح، فيما تفتح، الأفق، أي أفق الوعي، على احتمالات عديدة، خصوصاً في حقول المعرفة الإنسانية، ومنها حقل الفكر السياسي، وقد تقترب المعرفة من الأيديولوجيا، لكنها لا تتماهى معها، فتقيم مسافة بين الموضوع وبين الذات، فالموضوع له دراسته الخاصة، وله حيثياته، بينما ترفع الأيديولوجيا، عبر معتنقيها، التصوّر إلى مستوى الحقيقة المطلقة.

لكن، ما شأن العلاقة، أو الفرق، بين المعرفة والأيديولوجيا بالثورة السورية؟

العلاقة هي كل السياق الذي شهدناه منذ انطلاقة الانتفاضة الشعبية، أو الحراك الشعبي المدني، في منتصف مارس/ آذار 2011، والمآلات الكارثية التي وصل إليها السوريون والوطن السوري، وخيارات المعارضة السياسية، وهي بالطبع مسؤولة، من ضمن مسؤوليات عدة، تلقى على عدد من الجهات، فيما وصلنا إليه، فخيارات القوى السياسية، بوصف تلك القوى معبرة عن تصورات ورؤى أيديولوجية، وممارسات واقعية، هي جزء من واقع المسألة السورية، أو جزء من الواقع الذي حوّل الثورة السورية من ثورة لفتح الأفق أمام التغيير السياسي والاجتماعي والاقتصادي إلى مسألة إقليمية ودولية، خرجت في مجملها عن قدرة السوريين على ضبط مساراتها، أو التأثير في مخرجاتها.

كل السياق الذي شهدناه منذ انطلاقة الانتفاضة الشعبية، أو الحراك الشعبي المدني، في منتصف مارس/ آذار 2011، والمآلات الكارثية التي وصل إليها السوريون والوطن السوري، وخيارات المعارضة السياسية، وهي بالطبع مسؤولة، من ضمن مسؤوليات عدة، تلقى على عدد من الجهات، فيما وصلنا إليه

كان الهروب من نقد خيارات المعارضة والثورة، مع الحاجة إلى وضع المصطلحين السابقين بين مزدوجتين، لضرورات تمييزية، كان ذلك الهروب أحد السمات البارزة، خلال السنوات السابقة، انطلاقاً من مقولة محض أيديولوجية، بل وبراغماتية، وهي أن كل نقد للمعارضة والثورة سوف يصبّ من حيث النتيجة في مصلحة النظام، أي في مصلحة السلطة السياسية الموجودة في الحكم.

بدأ رفض النقد لأداء المعارضة السورية منذ تشكيل "المجلس الوطني" في أكتوبر/ تشرين الأول 2011، انطلاقاً من رؤية مفادها أن أي نقد للمجلس هو محاولة تشويش على أدائه، في الوقت الذي يحتاج المجلس إلى حشد دعم محلي وإقليمي ودولي، وبالتالي فإن أي نقد له سيكون بمثابة الطعن في شرعيته، وهو ما سيستفيد منه النظام السوري، وحملت مقولة "عدم ضرورة التشويش" بذور استبداد سياسي من نوع جديد داخل المعارضة نفسها، خصوصاً مع انقسام المعارضة إلى معارضتين، واحدة تمثلها قوى الخارج، وفي مقدمتهم الإخوان المسلمون، وتطالب بالتدخل الخارجي لإسقاط النظام، ومعارضة ثانية، تجد أن مقولة "التدخل الخارجي" مقولة غير وطنية، ولا تخدم عملية إسقاط النظام، وكان صوت المعارضة الثانية ضعيفاً، في ظل توجه إقليمي ودولي، بدا من الناحية الظاهرية أنه مع إسقاط النظام.

بذور استبداد سياسي من نوع جديد داخل المعارضة نفسها، خصوصاً مع انقسام المعارضة إلى معارضتين، واحدة تمثلها قوى الخارج، وفي مقدمتهم الإخوان المسلمون، وتطالب بالتدخل الخارجي لإسقاط النظام، ومعارضة ثانية، تجد أن مقولة "التدخل الخارجي" مقولة غير وطنية

كان مفهوماً في لحظة تاريخية ما، وفي ظل حالة الاستقطاب، في عامي 2011 و2012، أن تبرز الحاجة إلى حالة الإجماع في صفوف المعارضة، بحيث تكون موحدة في خياراتها، وهو ما فشلت فيه فشلاً ذريعاً، مع هروب "المجلس الوطني" من تشكيل لجنة سياسية موحدة، أو حتى لجنة متابعة، في مؤتمر توحيد المعارضة السورية في 2و3 يوليو/ تموز 2012، والذي شكّل فرصة تاريخية لبناء أوسع جسم معارض سياسي.

أصرّ أصحاب التوجه الأيديولوجي الرغبوي على التمسك بتصوراتهم للصراع الوطني، مستندين إلى الصراع الإقليمي حول سوريا، واتخذوا بناءً على ذلك جملة من التحالفات، التي اعتبروا أنها ستبقى ثابتة وداعمة لهم، وهو ما يكشف عن رؤية سطحية وتبسيطية لمصالح الدول وخياراتها، بل ولقدرتها على تغيير التحالفات حين تقتضي الضرورة، من دون أي اعتبار لتحالفاتها مع قوى سياسية معارضة، كما يكشف هذا التوجه عن تغييب أي قراءة سياسية للتاريخ السياسي العربي في عقوده الأخيرة، حين تخلّت الكثير من الدول العربية عن تحالفاتها مع معارضات سياسية، حين تغيّرت الظروف، ومن بين ذلك التاريخ ممارسات النظام السوري نفسه مع القوى الفلسطينية واللبنانية.

تخلّت الكثير من الدول العربية عن تحالفاتها مع معارضات سياسية، حين تغيّرت الظروف، ومن بين ذلك التاريخ ممارسات النظام السوري نفسه مع القوى الفلسطينية واللبنانية

إن أهم ما يميز المعرفة في الحقل السياسي هو قدرتها على الفصل بين الذات والموضوع، وبناء تصورات واقعية عن القدرات الذاتية، وقراءة الموضوع السياسي المحدد من دون أي تدخل رغبوي، واتخاذ خيارات عقلانية وواقعية، ووضع كافة الاحتمالات الممكنة، ودراسة السيناريوهات، وتحليل الفرص والمخاطر، وهو ما يجعل الذات قادرة على الانخراط في موضوعها بأقل قدر من الأوهام، وبأقل قدر من الخسائر، خصوصاً فيما يتعلق بالخيارات المصيرية، التي تمسّ الوجود، أو القضية الكبرى، وفي نطاق تناولنا هنا، هي القضية الوطنية السورية.

ومن أسوأ ما تقع فيه الأيديولوجية هو رفع الذات إلى مرتبة المقدس، ما يلغي المسافة بين الذات والموضوع، فتعتقد الذات بأن كل ما تقوم به هو الصواب بعينه، وكل ما عدا ذلك هو الباطل، وهو ما يجعل الذات تكابر في مواجهة التحولات التي تحدث على الموضوع، بل إنها أحياناً لا ترى تلك التحولات، ويمكن في هذا السياق ذكر مسألة جوهرية، بل ومفصلية، في سياق الأعوام الثلاثة الأخيرة، وهي أنه كان واضحاً أن التدخل الروسي سيكون حاسماً في الميدان العسكري، خصوصاً بعد الاستدارة التركية نحو موسكو، ومع ذلك فإن المعارضة السياسية لم تتبنَ أي تصورات جديدة بناء على التدخل الروسي، وظلّت تكابر، بينما الوقائع راحت تمضي في اتجاه مختلف.

ألم يحن الوقت لأن تقوم المعارضات السياسية السورية بمراجعة معرفية، بعيداً عن الأيديولوجيا، للمسألة الوطنية السورية، وأن تقدم كشف حساب عن أوهامها وأخطائها، وأن تقوم بنقلات ضرورية، من أجل رسم مخارج وطنية، يمكن لها أن تسهم في إعادة الصراع، قدر الممكن، إلى مساره الوطني، كي يستعيد السوريون موقعهم في تحديد مستقبل بلادهم على الصعد كافة؟