المجتمع المدني والصعود إلى المئذنة

2019.09.30 | 18:49 دمشق

المجتمع المدني - سوريا
+A
حجم الخط
-A

لم يكن الخروجُ من ورطة توقيعنا على بيان المجتمع المدني الذي عُرف باسم "بيان الألف" ممكناً بأي شكل من الأشكال، ولم يعد بإمكاننا التراجع عن التوقيع، حتى ولو قررنا التراجع بالفعل، لأن التعبير الشعبي الإدلبي يقول في مثل هذه الحالة (مَيْ وانْكَبِّتْ)، بمعنى أن الماء إذا سُفِحَ على الأرض يستحيل جَمْعُه وإعادته إلى الكأس. وصار حائطُنا، أنا وتاج الدين الموسى وعبد القادر عبدللي وعبد العزيز الموسى، بعد هذا التوقيع، واطئاً، وصرنا ملطشة للمُخبر اللي يسوى والمخبر اللي ما يسواش، كل مَنْ حمل دفتر مذكرات ومشى في شوارع إدلب ومسدسه على خصره كان يمكنه أن يؤاجر بنا بتقرير، أو باستدعاء، أو حتى بنظرة ازدراء.

الحقيقة أن النظام في تلك الفترة (2001) كان يعيش حالة انتشاء، وارتياح، لأن عملية توريث الحكم للفتى القاصر بشار تمت بنجاح (التوريث الذي وصفه أستاذنا صادق جلال العظم بأنه أكبر إهانة يمكن توجيهها للشعب السوري)، والبطانة التي كانت حول الفتى القاصر راحت تشيع بين الناس أن عهد الفتى سيكون أقل قمعاً من عهد والده، ولئلا يظن الناس بالوالد ظن السوء كانوا يشرحون أن الوالد "اضطر" لقمع الناس، لأن مرحلته كانت عصيبة، والاستعمار والإمبريالية والصهيونية والدول العربية الرجعية استشرست في تآمرها على صمود سورية الذي تحقق بقضل قائدها.. وبما أن كل المؤامرات قد تكسرت على صخرة الصمود، فقد جاء (هذا) امتداداً للمدرسة النضالية التي أرساها (ذاك)..

لم تلجأ فروع الأمن إلى إهانتنا نحن الموقعين على بيان الألف، وإنزالنا إلى الأقبية لنذوق طعم الدواليب الأسدية والكهرباء، واكتفوا بإعلان "الحرب الباردة" علينا

وكان توقيع بيان الـ 99، وبعده بيان الألف (اللذين طالبا بالتعددية الحزبية، وحرية الصحافة، وإلغاء قوانين الطوارئ ومحاكم أمن الدولة، وإلغاء المادة الثامنة من الدستور التي تعطي امتيازات استثنائية لحزب البعث، وإصلاح مجلس الشعب، وإفراغ السجون، والاعتذار للشعب عما مضى) نوعاً من المنغصات التي كان من الممكن تلافيها، ولذلك لم تلجأ فروع الأمن إلى إهانتنا نحن الموقعين على بيان الألف، وإنزالنا إلى الأقبية لنذوق طعم الدواليب الأسدية والكهرباء، واكتفوا بإعلان "الحرب الباردة" علينا، وقد تجلت هذه الحرب بالاستدعاءات المتكررة إلى الأمن السياسي، والأمن العسكري، وأمن الدولة (بالنسبة لي لم أُسْتَدْعَ إلى الأمن الجوي، ولا أدري ما السبب)، وهذه الاستدعاءات، على الرغم من وساختها، كان لها جانب هزلي، مضحك، يتجلى في التكرار على طريقة الأب الذي سأله ابنه: ما هو العلاك؟ فقال الأب: أن تقول كلاماً وتعيده! وبالفعل كانت استدعاءاتنا كلها نوعاً من الإعادة، تبدأ بالسؤال عن أسماء الموقعين.. وكنا نذكر لهم الأسماء الأربعة (وكنا نُغفل اسم المحامي ياسر السيد لأنه وقع على البيان في حلب.. ونحن بطبيعة الحال في غنى عن شروحات إضافية).. ثم يأتي السؤال الثاني: مَن دعاكم للتوقيع؟ والثالث: هل هناك أوراق وقعتكم عليها أم أن التوقيع كان شفوياً؟ والرابع: هل المجتمع المدني حزب؟ ولمن هي عمالتُه؟ ومَنْ يموله؟..

إذا قلت لكم إن هذه الاستدعاءات استمرت تسع سنوات متواصلة دون فاصل منشط فلربما شككتم بصحة قولي، أو ربما أصابكم الملل، ولكن هذا من طبيعة الحرب الباردة.. 

لكي أبعد عنكم مشاعر الملل هذه أذكركم بأن الأديب الراحل ممدوح عدوان كتب في صحيفة "الدومري" ذات مرة أنه يعيش في دمشق منذ ثلاثين سنة، وحتى الآن، كلما نفضه أحد المخبرين بتقرير، يرسلون التقرير إلى حماة، ومن حماة إلى مصياف، ومن مصياف إلى قريته "دير ماما" وهناك تذهب المفرزة الأمنية إلى والدته (الماما) لتسألها عن صحة المعلومات التي نسبت لممدوح..   

تأكد لنا، بما لا يترك مجالاً لشك، أن رواية ممدوح صحيحة، فالتقارير الخاصة بي كانت تذهب إلى الشعبة الحزبية في معرتمصرين، مع أنني أعيش في إدلب منذ 1980، وبما أن ابن عمي أذينة بدلة (الذي استشهد بقصف روسي قبل سنوات) كان أمين فرقة بعثية، فقد كانوا يذهبون إليه، وأذينة كان "شيخ شباب" من الطراز الرفيع.. ومن شدة محبته لي كان في البداية يستبسل بالدفاع عني، غير مبال بما قد يلحق به من ملامة، ويشيد بوطنيتي، وبالتزامي بالخط النضالي لهذه المرحلة! ولكنه، عندما تكررت التقارير والأسئلة صار يضجر منهم ويقول لهم: لكْ عمي الزلمة وَقَّعْ والشغلة صارت، يعني ما عاد بدكم تحلوا عن..؟ (كان يستخدم كلمة مشفترة).. وكان المرحوم تاج الدين الموسى من أكثر الذين يتعرضون للحرب الباردة ظرفاً وطرافة، فهو بالذات ما كانوا يرسلون التقارير الخاصة به إلى قرية كفرسجنة، بل يذهب بعض العناصر إلى فرع شركة سادكوب ويبلغونه بضرورة مراجعتهم في وقت محدد، وكان – رحمة الله عليه- ينفلت بالضحك بمجرد ما يمثُل أمام المحقق، ويقول لهم ما معناه بأن جماعة الأمن السوري سخيفون، ولا يعرفون شيئاً مما يجري في هذه الدنيا الفانية.. وكان يكتب في صحيفة النور مقالات تتضمن انتقادات قوية لسياسة النظام وأجهزته، وفي كل استدعاء كان يقص المقالة المنشورة ويأخذها معه، ويضعها أمام المحقق ويقول له: شوفوا إذا تهمة المجتمع المدني غير كافية أضيفوا هاي المقالة لإضبارتي، وفي كثير من الأحيان يذكرهم بقصته التي يخصهم بها وتحمل عنوان "الكلاب". 

قديماً، في القرى الصغيرة، كانت وسيلة الإعلام الوحيدة هي المئذنة

قديماً، في القرى الصغيرة، كانت وسيلة الإعلام الوحيدة هي المئذنة، فمن أضاع شيئاً، أو يريد أن يبلغ أهل القرية عن شيء، يطلب من المؤذن أن يصعد إلى المئذنة ويوصل الرسالة.. 

ما حصل مع ظافر عبد اللي، شقيق المرحوم عبد القادر، هو أن عبد القادر انتقل للعيش في دمشق منذ سنة 2002، والمراجعات الأمنية الخاصة به كانت تذهب إلى "حي المنشر"، ودوريات الأمن المكلفة بالموضوع كانت تأتي (خاصّ ناصّ) إلى ظافر.. وكان يقول لهم: عبد القادر صار في الشام.. وبيته في قدسيا.. هذا هو عنوانه المفصل.. يا أخي اذهبوا إليه واسألوه.. أنا ما بعرف شي.. وفي مرة من المرات قال لهم: 

- اللهم طولك يا روح.. خيو، إذا أنا هلق بطلع ع المادنة، وبعلن إنه أخوي عبد القادر ساكن في الشام، بتحلوا عني؟!

كلمات مفتاحية