المثقف العربي.. وأزمته الوجودية..

2020.10.03 | 00:16 دمشق

_208142_boo.jpg
+A
حجم الخط
-A

تتحدث أرشيفات جائزة نوبل للأداب التي تُكشف بعد مرور خمسين عاماً على صدور النتائج بأن المثقف العربي الأول الذي رشح اسمه للجائزة في تاريخها هو عميد الأدب العربي طه حسين الذي تم ترشيحه في عامين متتالين 1949 وعام 1950، حيث كان حضوره شاملاً وأساسياً في تجديد الوعي والثقافة العربية، وكان حجم إضافاته التي قدمها للثقافة العربية والعالمية جليلاً وغير مسبوق في العصر الحديث، ولكن المنافسة في تلك الأعوام كانت تضم أسماء عظيمة وذات حضور عالمي لا يمكن إغفالها حتى اليوم، بحيث بزّه في العام 1949 وليم فوكنر الروائي الأميريكي الشهير، وفي العام 1950 فاز الفيلسوف البريطاني برتراند رسل.

لقد كانت وظيفة المثقف العربي المعاصرة على الدوام تحمل إشكالية غرائبية، فشكل المثقف العربي التقليدي في كتب التراث وحتى الخروج من الدولة العثمانية التي لم يكن للثقافة العربية فيها حضور متفرد بعيد عن الثقافة الإسلامية والعثمانية، ومع بداية عصر النهضة العربية ثقافياً، بدأت صورة المثقف العربي تتخذ شكل الواعظ والمرشد وليس المبدع فقط، بحيث كانت اللغة العربية تحتاج من يلملم بقاياها المتناثرة، وكانت الصدمة الكبيرة بالانفتاح على العالم، فقد كانت الثقافة العربية أساساً تستند على إرث ماضِ لا ينضب من التراث العربي المعقد والثري لغوياً وفكرياً وتنظيرياً، وحتى أدبياً، ولكنها لم تكن ثقافة معاصرة تنتمي لبدايات القرن العشرين، فكان أن اعتمد المثقف العربي على عنصرين أساسيين للإبقاء على ما تعارف عليه بالثقافة العربية وهما القرآن الكريم ( ككتاب ديني وكحافظ للغة العربية)  والشعر العربي ( ديوان العرب) كمنبع للصور والأفكار والمعارك والألوان الفكرية.. في حين تراجعت الفلسفة الإسلامية وبقت حبيسة معارك قرون سابقة.. بحيث لم يعد النقاش الديني هو جوهر وعصب الحياة الفكرية العربية، فجأة ومع بدايات القرن العشرين وجد المثقف العربي نفسه أمام عالم لا يعترف به، وينظر للثقافة العربية على أنها تراث هائل وضخم، توقف عن التجديد والتجدد، ولم يعد مرناً بما يكفي لمواكبة علوم العصر وفلسفته السياسية والتكنولوجيا والطبية الحديثة وسباق الفضاء والصناعات.

 لم يكن المثقف العربي قادراً على عكس لغة العصر في فكره، لأنه كان مشغولاً في التمسك بشكلانية اللغة العربية ومحاولة مواكبة التجديد اللغوي والفكري الذي يعيشه أبناء عصره، فكان ناصيف اليازجي وسليمان البستاني في أواخر القرن التاسع عشر، ومن ثم جاء أدب المهجر مع جماعة خليل جبران وإيليا أبو ماضي ليبدأ التجديد في الأدب والفكرة بسبب الاحتكاك والتماس المباشر مع الغرب ومطارح البناء الفكري الذي وصلوه، من جهة أخرى كان محمد كرد علي في دمشق مشغولاً كمثقف عضوي عربي ببناء وتمكين مجمع اللغة العربية واستنساخه فيما بعد في عدد من العواصم العربية.

هذا من الجانب الأدواتي للثقافة التي كان المثقف يشعر فيها بضرورة حماية أداة ثقافته الأساسية وتعزيزها قبل ضياعها بسبب سياسات التتريك والفرنسة والإهمال، بينما اقتصر التجديد اللغوي الرسمي على نحت مئات الكلمات التي بقيت حبيسة أدراج مجمع اللغة، مما زاد الهوة بين الشارع وكنيسة اللغة العربية، ولكن من جانب

إذا ما فندنا معظم الإبداع الثقافي العربي من مضمونه القومي والنضالي تجد أن مساحات التجديد الفني الصرف في العالم العربي متأخرة جداً عن التجديد في الغرب

آخر كان المثقف العربي مشغولاً على الدوام بمواجهة السلطات، استعمارية كانت أم وطنية، دينية كانت أم قومية، مما استنفذ جلّ وقته وإبداعه وطاقته أيضاً، وليس وارداً أساساً ألا ينشغل المثقف العربي في مواجهة السلطات بكافة أشكالها فهي إحدى مهامه كمثقف وحمّال لهموم شعبه، ولكن ومنذ قرن ونصف تقريباً لم يعرف المثقف العضوي العربي مهمة أخرى وسبباً واحداً لوجوده سوى النضال، أليس أيضاً من واجب المثقف والأديب ممارسة الأدب وتطويره ابتكارياً وتخييلاً بعيداً عن المهام الوطنية واللغوية.. فإذا ما فندنا أغلب الإبداع الثقافي العربي من مضمونه القومي والنضالي تجد أن مساحات التجديد الفني الصرف في العالم العربي متأخرة جداً عن التجديد في الغرب، ربما يعود هذا لأسباب حضارية متعددة جعلت المثقف العربي يبدأ رحلته الثقافية وهو مثقل بتابوهات الجنس والدين والسياسة، التي تشل أي تفكير عربي، وتخيل أنه على المثقفين العرب أن يكتبوا كل ما يريدون كتابته دون التطرق للجنس ومشاكله الحقيقية في العالم العربي، أو دون محاورة الأديان والطوائف ومحاولة فك ألغازها وعلاقتها مع الشعوب العربية، وطبعاً دون أية  سياسة حقيقية تعكس جدل المجتمع والسلطة.. تناقش قضايا الشارع الحقيقية الجوهرية وليس الركوب على القضايا وتصويرها..

المثقف العربي في القرن الواحد والعشرين مضطر ومجبر على مواجهة العالم وليس فقط نفسه، يقولون الشعر ديوان العرب، ولكنهم متمسكون بالشعر الجاهلي المقفى، ويرفضون بكل ما أوتوا من قوة أية محاولات شعرية تجديدية عربية حقيقية في الشعر، بل ويمارسون الإلغاء بمفعول عكسي فلا أدري ماذا سيكون الموقف من شعر محمود درويش إن جرد من القضية الفلسطينية ونوقش كشاعر حضاري كبير، وكذا الأمر مع رفض شعر نزار بوصفه شعر بسيط وغير مطابق لصورة الشعر في أذهانهم..

لم لم تظهر مدرسة خاصة للرواية العربية؟ مع أنها لغة تحتوي على نصف مليار قارئ، لم لم تظهر الواقعية السحرية لدينا؟ كما حصل في أميركا اللاتينية، أو مع المدرسة الأوروبية أو الواقعية الأميركية أو المدرسة الروسية العريقة في الرواية.. لماذا توقفت منابع القص لدينا عند تخوم المكان ودوراننا في المكان؟..

أين التجديد من المثقف العضوي العربي؟ أم أن مهمة المثقف تتجلى وحدها في موقفه من قضايا الأمة، بينما مفاتيح الأمة ممسوكة في أيدي الآخرين، أين نزع القدسية والمراجعين لكل ما كتب من أدب وفنون..

لم توقفت اللغة العربية عن التطور؟ مثلما يتطور الإنسان العربي في لغته اليومية، ومن يقفل لغة الأدب بعيداً عن الناس، وكأن هناك سلفيين في اللغة يسعون دائماً لاستنهاض السلف القديم لغوياً، وتكفير الحديث من التجديد فنياً.

حينما رُشح عميد الأدب العربي طه حسين لجائزة نوبل، كان رمزاً للكلاسيكية العربية، بينما كان وليم فوكنر رمزاً للتجديد في الرواية الأميركية والرواية بشكل عام في العالم.. مع أنني من عشاق الرجلين كل في مجاله، إلا أنني أتوق لشهاب أدبي يخترق سماء الأدب العربي، مهشماً المعاني واللغة والصور الشعرية الكلاسيكية، إلى خرق للذهنية العربية المتمترسة في الماضي، لنرى كيف سيقتل المثقفون العضويون العرب أي موهبة تنشز عن السياق، تخيلوا صموئيل بيكيت عربيا، وتخيلوا كيف سينتهي في صفحات النقد العربية، تخيلوا سلمان رشدي عربيا أيضاً وأترك لخيالكم نهايته قبل أن يبدأ..

فمثلما تحتاج الثقافة العربي لطه حسين، هي تحتاج حكماً لمن يفكك تلك الكلاسيكية.