اللجنة الدستورية ومستقبل سورية

2019.12.25 | 17:47 دمشق

5ddc0288203027133240c672.jpeg
+A
حجم الخط
-A

غاية الثورة وطبيعة النظام

قبل الحديث عن اللجنة الدستورية لابد من فهم جوهر الثورة السورية ودوافعها البعيدة وطبيعة النظام الأبدي الذي أوجده حافظ الأسد وسار عليه ابنه فأوصله إلى طريق مسدودة لا بالمظالم التي لحقت بالمجتمع السوري أفراداً وجماعاتٍ وسببت ما سببته من أوجاع وأحقاد، بل بانسداد الأفق أمام الشعب السوري على غير صعيد، وبخاصة ما يتعلق بالتنمية الشاملة التي توقفت بسبب من السياسة المغلقة التي جعلت المواطن أمام جدار كتيم يحول دونه والحياة، وقد أخذ يعيها جيل الشباب الذي كان قد قطع الأمل في حدوث أيِّ انفراج سياسي في النظام المحكوم بمقولة باتريك سيل في كتابه "حافظ الأسد/الصراع على الشرق الأوسط" حول تصوِّر الأسد عن الديمقراطية التي يريدها لدولته المحكمةِ حركُتُها بدقة عالية، لكنه يخشى، إنْ هو حلَّ برغياً واحداً في سلسلة إحكامها، أنْ يتخلخل نظامها كلّه فلا يعود قادراً على التحكم بها.. وعلى ذلك، فيما أرى، إنه لا يريد الديمقراطية محتوى بل شكلاً للمباهاة وليزداد اعتزازاً بأناه المفرطة في التضخم المريض لا لتنعكس على طبيعة الدولة نموَّاً وازدهاراً..! ومع الأيام تحوَّل تناقض الأسد من حال ذاتية إلى تناقض عام بين الدولة والشعب المقيَّد بما يمثله كأداة للتطور والنهوض بنفسه وبالدولة معاً ما أوصل التناقض إلى ذروته، وقاد الشعب إلى قناعة بأن لا إصلاح للنظام إلا بتفكيك بناه..

بشار على خطا أبيه وأكثر

ولعل الوريث قد استقرأ، ذلك التناقض، وأخذ يعلن عن حلِّهِ بالإصلاح والتحديث، لكنه، لم يجرؤ على حلِّ البرغي.. وحين هبَّ الشعب يهتف للحرية، آثر الاستماع إلى صوت أمه يقول:

"افعل كما فعل أبوك" ففعل أكثر مما فعل أبوه إذ دمَّر الدولة والشعب معاً، كاشفاً بذلك عن عقدة الدولة الكامنة في بنيتها الداخلية التي لابد من تفكيكها، ولكن كيف؟! فكم من محاولات سابقة جاءت من أدوات الدولة ومرتكزاتها، أعني من مؤسساتها المختلفة، بدءاً من مجلس الشعب، وانتهاء بمجالس المدن والبلدات، ومروراً بالنقابات العمالية والمهنية. لكنها فشلت بالمطلق رغم عشرات المؤتمرات ومئات اللجان وآلاف الصفحات من الدراسات والتقارير والمذكرات التي لا يمكن اتهامها بالكذب وبعدم ملامسة عمق معاناة الدولة، لكنها بنية النظام الاستبدادي المغلق..! وإذا كان مطلوباً تفكيك دولة الاستبداد فلابد من تفكيك البنية العسكرية في المعارضة.

اللجنة الدستورية

اليوم وقد وصل الطرفان إلى اللجنة الدستورية التي ولدت بعدة عمليات قيصرية فثمة سؤال طبيعي يراود المتابع هو: هل تستطيع هذه اللجنة تحقيق ما يصبو إليه الشعب السوري في أجواء انتقل فيها التناقض من عوامله الداخلية إلى عوامله الخارجية، ما يعني أن القضية السورية كلها اليوم بيد المتدخلين المتناقضين فيما بينهم حول مصالحهم.. وقد يساعد هذا التناقض، إن لم يذهب إلى مداه، في مساعدة السوريين على الخروج من القاع الذي أوصلهم إليه النظام والتطرف المتعسكر على السواء، ولعل المتدخلين مرغمون على إيجاد مخرج ما يحقق دولة وسطاً ليظل هدف الثورة قائماً أمامها فيما يتعلق باستئصال جذور الاستبداد وما أفرزه من وجوه أخرى تمثلت بالعسكرة من جهة وبالتطرف الديني من جهة أخرى، وكي لا يُترك مجال للقوى المتدخلة بالبقاء، كما حصل في أفغانستان، إذاً لا بد من أن تؤخذ بالحسبان أطيافُ السوريين كافة لا بالتقسيم ولا بالفيدراليات الممهدة له، بل بدولة المواطنة التي تستند إلى نظام لا مركزي ينمّي المجتمع تنمية شاملة، ويراعي خصوصية كل طيف من أطيافه السورية سواء أكانت دينية أم قومية أم طائفية.. ولكن ما يبدو اليوم من اجتماعات اللجنة الأولى صعوبة تحقيق ما يصبو إليه الشعب السوري، فالنظام يعرقل كما قد عوّدنا ولكن، وإذا كان النظام يعرقل، فما يتسرب من طرف اللجنة (المعارضة) اختلاف بين أعضائها حول تصوراتهم عن الدستور هل هو إسلامي أم علماني؟! ما يعني عودة إلى المربع الأول ناهيكم بعدم رضا الدول الحاضنة لهذا الطرف أو ذاك.. الأمر الذي يقوي طرف النظام ويفسح في المجال لأطراف خارجية أيضاً بالتدخل في صياغة الدستور وخصوصاً الروسي. فهل يمكن للروس أن يفعلوا شيئاً؟

تصورات عن الدستور القادم

إن تجربة الخمسين سنة الأخيرة من حياة السوريين وما عانوه من أوجاع جوهرها التمييز، وغالباً لم تأت من الدستور بل من تجاوزه والالتفاف عليه، وعلى القوانين كافة، إن لم أقل تجاهلها بما جاءت من التمجيد الذي أتى على ذكره عبد الرحمن الكواكبي عادّاً إياه مسعىً إلى الاستبداد، ولإطالة أمده.. ومن هنا لابد من تأكيد إلغاء التمجيد بمواد دستورية واضحة بينة ومعاقبة من يقوم بذلك، وخصوصاً في وسائل الإعلام.. فتجاربنا السابقة تؤكد أن التمجيد والتقديس يغدوان ستاراً لتجاوز الدستور.. وقد حصل ذلك حين عُدِّل الدستور خلال خمس دقائق دون اعتراض أحد من مئتين وخمسين عضواً المفترض أنهم مشرّعون.. والتمجيد لا يوجد إلا في دول الاستبداد.. ففي السويد مثلاً لا يجوز في الدستور "استخدام كلمات مثل سعادة، وفخامة، وجلالة، وظل الله على الأرض، بل يخاطب المسؤول كائناً من كان باسمه ووفق القانون". إذاً لابد بداية من:

- تثبيت مواد في الدستور تعمل على تفكيك سلطة الاستبداد فرداً كان أم نظاماً، وسد السبل في وجهها إن حاولت العودة فقد تسمح طبيعة مجتمعنا ومكانته في سلم التطور العام بذلك.. ولا بد أيضاً من أن يُدرَّس الدستور في المدارس الثانوية للهدف نفسه.

- كذلك لابد من تحديد ولاية الرئيس فإن حددت بسبع سنوات فلا يجوز تكرارها مهما كانت الدواعي والمبررات.. أما إذا كانت أربع أو خمس سنوات فلا بأس من أن يترشح الرئيس لولاية ثانية..

- لابد أيضاً من وجود مادة تُخضع رئيس الجمهورية للمحاسبة في إطار المهام التي يستلمها، فهو موظف اختاره الشعب ليكون حارساً على مصالحه..

- كذلك لابد من الارتقاء بمواصفات عضو مجلس الشعب، في حال أردنا للمجلس أن يشكِّل سلطة تشريعية بحق..

مجلس الشعب

بداية لابد من الإشارة إلى أن مؤسسات الدولة التي صنعها الأسد الأب لم تكن لتتمتع بأية حرية سياسية في شؤون دائرتها الضيقة سواء كانت إنتاجية أم إدارية تنفيذية أم تشريعية وقضائية.. فلم تكن أي من تلك قادرة على التصرُّف بأي أمر مهم يخص عملها ما لم تستند في قرارها إلى المراكز التي تقود الدولة.. القصر الجمهوري، أجهزة الأمن، ضباط كبار، قيادة قطرية، فروع حزب.. إلخ وبحسب التسلسل والوسائط، وعبر التقارير والمحسوبيات ومستحقاتها، وعلى ذلك فالكثير من المشاريع التي كان لها أن تنجز خلال سنة أو اثنتين كانت تستمر ربع قرن كحد أدنى.. وهذا فساد أشد فتكاً من أيِّ فساد آخر..!

وإذا كان لابدّ من إلقاء ضوء على تجربة الكاتب الشخصية في مجلس الشعب، فلا جديد يضاف إلى ما أشير إذ لم يكن المجلس أكثر من منبر للخطاب لكنه الخطاب الذي لا يأتي بنفع فهو لا يمس جوهر سياسة الدولة، وسلطتها التنفيذية، فلا يذكر أن ذلك الدور التشريعي قد حاسب مسؤولاً أو عالج قضية فساد كبرى.. رغم طرح بعض الأعضاء لقضايا فاقعة.. ومع ذلك لم يكن صوت المجلس مسموعاً على نحو كامل في وسائل الإعلام الرسمية، كذلك لا أذكر أن مجلس الشعب حاسب وزيراً، وفي الحقيقة، يمكن أن يحدث ذلك إذا ما أراد رأس هرم النظام ذلك، أي إذا أراد أن يسرح موظفاً أو ينال منه..! وفي هذه الحال لا يكون الأمر متعلقاً بحالة فساد بل بأمر سياسي يعارض جوهر سياسة النظام.

أما بخصوص سياسة التشريع فمعظم مشاريع القوانين تحال من السلطة التنفيذية وكلها تسير دونما اعتراض ويمكن إجراء بعض التعديلات وفي حال إصرار السلطة التنفيذية يصبح الأخذ والرد والمخاتلة أسياد الموقف والمثال الساطع رفض المجلس للمادة 137 التي تجيز تسريح العامل لأمر ما، ودونما مساءلة أو محاكمة، بل تحت بند اسمه "مقتضيات المصلحة العامة". فلم تقبل السلطة التنفيذية وزعم رئيس مجلس الشعب أن الرئيس لم يوافق مستخدماً هنا السلاح الذي تنتجه ظاهرة التمجيد المشار إليها فكان أن استعان أكثر من عضو بالدستور الذي ينص في حال الخلاف على أن يكون الرأي الأخير للمجلس، لكن الدستور لم ينفع المجلس إذ أقفل رئيسه النقاش مستنداً إلى النظام الداخلي.. وبدأت رحلة الأخذ والرد، وجاء رئيس السلطة التنفيذية إلى المجلس التشريعي محاولاً الإقناع زاعماً أنه يريد محاربة الفساد بهذه الطريقة، ولما فشل لجأ فيما بعد للأكثرية البعثية، وفي مقدمتها رئيس اتحاد العمال فأقرت المادة بعد تغيير شكلها فيما بقي المضمون نفسه.. وثمة مشاريع قوانين يتقدم بها عدة أعضاء من المجلس وهذه غالباً ما تهمل إذ تذهب إلى السلطة التنفيذية لبيان الرأي والإعادة، لكنها تذهب دونما عودة..

بصيص أمل

وأخيراً لعلَّ ما ذكر، وهو غيض من فيض، يشير إلى أن اللجنة الدستورية لن تحدث ذلك الخرق المؤمل في الجدار الكتيم.. اللهم إلا إذا جرى ضغط على الروس للقبول بتفكيك بنية النظام، واستبدال رأسه والخلاص من المسلحين كافة ما يفسح في المجال لعودة اللاجئين عودة آمنة والإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين، وإنتاج دستور متوافق عليه تجري انتخابات في ظله وتبدأ مع إعادة الإعمار مرحلة جديدة في تاريخ سوريا..!

كلمات مفتاحية