اللجنة الدستورية لوأد الثورة السورية

2018.06.27 | 11:06 دمشق

+A
حجم الخط
-A

توالت الأخبار في الأيام الماضية عن اللجنة الدستورية المفترضة الناجمة عن مؤتمر سوتشي، ورغم التأكيد السابق لعدد من الدول الراعية للمفاوضات أو حتى الأمم المتحدة على أن ذلك المؤتمر لن يكون بديلا عن مسار المفاوضات الرسمي، إلا أن تلك الأقوال كانت على ما يبدو أشبه بالمخدر المؤقت، بغاية الالتفاف لإنجاح ذلك المؤتمر، واعتماد مخرجاته كأساس وبديل عن العملية التفاوضية في جنيف.

فرغم فشل ذلك المؤتمر نتيجة غياب المعارضة الحقيقية عنه، إلا أنه نجح بسبب تآمر عدد من الأطراف بتمرير غايته، ألا وهي تشكيل اللجنة الدستورية ومحاولة إقرارها، وإجبار المعارضة المتغيبة عن مؤتمر سوتشي على المشاركة فيها باستخدام مبدأ العصا والجزرة.

لا شك أن كتابة دستور جديد لسورية يضمن حقوق وحريات مواطنيها هو أحد أهداف هذه الثورة، فالدستور، كما هو متعارف عليه، يمثل العقد الاجتماعي الذي يتوافق عليه أبناء الدولة الواحدة، ليحوي مجموعة من القوانين والمبادئ التي تحدد شكل الدولة من حيث نظامها السياسي وعلاقة مؤسساتها، بالإضافة إلى علاقة أفرادها ببعضهم وبتلك المؤسسات. ولكن من المؤكد أيضا أنه لا الظرف ولا التسلسل الزمني المنطقي للعملية السياسية المقررة يسمح بذلك الآن، فحسب قرارات جنيف فإن الأولوية هي تشكيل هيئة انتقالية كاملة الصلاحيات، يكون من مهامها اللاحقة وضع الأسس والاتفاق على طريقة صياغة واعتماد الدستور.

ففي العادة، يتم تشكيل الدستور بإحدى طريقتين، أولاهما، عن طريق جمعية تأسيسية منتخبة من قبل الشعب، وفي وضعنا الراهن، لا أعرف إن كانت الأسماء المرسلة من قبل المنصات المختلفة تعتبر بديلا عن أصوات الشعب بكل فئاته، فلا أذكر شخصيا أنني أعطيت صوتي أو تفويضي لطبيب أو معلم أو مهندس أو رجل أعمال، مع احترامي الكامل لتلك المهن وأصحابها، ولكن المذكورين ليسوا بأصحاب الاختصاص لصياغة دستور يكون أساسا لبناء سورية الجديدة ، مستقبل بلد كامل سيتحدد بناء على هذا الدستورـ فهل يعقل أن يوضع بأيدي من لا يفقهون شيئا بكتابته من قانونيين وسياسيين ورجالات دولة؟

لا شك أن كتابة دستور جديد لسورية يضمن حقوق وحريات مواطنيها هو أحد أهداف هذه الثورة، فالدستور، كما هو متعارف عليه، يمثل العقد الاجتماعي الذي يتوافق عليه أبناء الدولة الواحدة

وثاني الخيارات لصياغة الدستور هو كتابته من قبل تلك اللجنة المفترضة، ومن ثم عرضه للاستفتاء الشعبي، وهنا ستكون الطامة الكبرى، إذ أن من سيكون مسؤولا عن هذا الاستفتاء في هذه الحالة هو النظام، وذلك لغياب هيئة الحكم الانتقالي المنصوص عليها في قرارات جنيف، وذلك سيعني أمرين، أولاهما إعادة تأهيل النظام الحالي والاعتراف الكامل بشرعيته، والأمر الآخر أنَّ هذا الاستفتاء سيعني استبعادا تاما لجميع معارضي النظام، أي بكلمات أخرى: وأد الثورة.

أما إن كانت كتابة الدستور لن تتم بأي من الطريقتين، وإنما سيتم ابتداع فتوى سياسية جديدة، فهذا سيؤكد أن سورية قد أصبحت عندها بشكل فعلي حقل تجارب، أولا عسكريا، على يد روسيا وتجاربها لأسلحتها الجديدة، وثانيا سياسيا، على يد دي ميستورا ومن لف لفيفه.

وعلى الرغم من كل ما ذكر أعلاه وما يمثله من مرحلة حرجة تمر بها الثورة، إلا أننا نشهد انسحابا سياسيا يتصدر المشهد، نعم هناك أصوات فرادى تظهر بين الفينة والأخرى، ولكن لا يوجد أي مبادرة عملية لتوقف المهزلة الحاصلة.

أين الرعيل الأول من المعارضين الذين تصدروا المشهد السياسي، أين هم المفكرون والمنظرون، أين هم المثقفون، أين هم النشطاء، أين هم الثوار...هل اكتنفنا اليأس جميعا لهذا الحد؟ هل نسمح للوصوليين المشاركين في هذه المهزلة بأن يذكرهم التاريخ كآباء مؤسسين لسورية الجديدة؟! أين هم رجالات سورية الوطنيون الذين سيصنعون ويكتبون التاريخ؟ هل يؤكد كل ذلك مقولات النظام وحلفائه بأن سورية لا يوجد فيها بديل عن الأسد؟!

صحيح أن هناك إرادة دولية لإنهاء ثورتنا، وصحيح أن كثيراً من الأخطاء وقعت من قبلنا، ولكن جلد الذات المؤدي إلى الانتحار.. مرفوض، التفريط بدماء الشهداء..مرفوض

صحيح أن هناك إرادة دولية لإنهاء ثورتنا، وصحيح أن كثيراً من الأخطاء وقعت من قبلنا، ولكن جلد الذات المؤدي إلى الانتحار.. مرفوض، التفريط بدماء الشهداء..مرفوض، تناسي أصوات المعتقلين..مرفوض، التخلي عن المهجرين..مرفوض، إخلاء الساحة للانتهازيين من كل الاطراف..مرفوض.

يجب أن يكون واضحا في أذهان السوريين جميعا أن نجاح ثورتنا سيعني تغييرا لمجرى التاريخ، وأن ما يحدد مسار التاريخ هو الفعل البشري، وهذا الفعل يحتاج همماً عالية تناطح الجبال، الاستمرار والعزيمة، القعل الثوري المتواصل، وضوح الرؤية والأهداف هي ما يلزمنا في هذه الأوقات الشداد.

على كل من يرفض ما يحصل أن يرفع صوته عاليا، وليبدأ العمل بشكل فوري لتشكيل جبهة وطنية موحدة، أقله لرفض كتابة الدستور ضمن هذه السيناريوهات الحالية، فإن مشكلة سورية لن يحلها كتابة دستور يشارك في إقراره نظام قتل وهجر شعبه، دستور سورية سيكتب بأيادي أبناء سورية المخلصين المختصين، الذين يعرفون معنى سورية الجديدة.

هذه الجبهة الوطنية يجب أن تضم النخب الفكرية والسياسية الملتزمة بمبادئ الثورة وأهدافها، المخلصين ممن تصدروا المشهد في الفترة الماضية، وممن انتموا إلى الثورة في الميادين، ومن ساهموا بإخلاص في العمل السياسي، صحيح أن الكثير منهم ابتعد نتيجة التخوين الذي طاله من بعض من ادعى أنه مع الثورة قبل أن تنال منه كتائب الجيش الإلكتروني التابعة للنظام، وصحيح أن بعضهم تم استبعاده لرفضه الضغوطات الدولية، والمساومة على مبادئ الثورة وأهدافها، ولكن في هذه الثورة ما يستحق التضحية، والجرأة، والاستمرار.

الانكفاء السياسي حاليا ليس لها أي مبرر، فحتى الإرادة الدولية -مهما بلغت من قوة- لا يمكن لها أن تتم إن لم تجد أطرافا تنفذها وتستجيب لها، فالأمر يحتاج لطرف من المعارضة ليستجيب لتلك الإرادة وينفذها، والواجب على كل من تحرك ضد النظام تحت أي مسمى كان، معارضة، ثوار، نشطاء.. جميعهم يجب أن يرفضوا بشكل تام أن يتم تمثيلهم من قبل فئة ادعت انتماءها للثورة ولكنها لم تفعل إلا الخضوع لإرادات الدول المختلفة تماشيا مع مصالحها.  

لقد قامت ثورتنا من أجل انتقال سياسي كامل، ولم تقم من أجل كتابة دستور تحت مظلة دول محتلة وقاتلة لشعبنا، ولم تقم ليكتب ذلك الدستور حفنة من أصحاب الأطماع الشخصية، دستورنا كسوريين يجب أن يكتب بأيدي السوريين المخلصين من سياسيين وقانونيين ورجالات الدولة، هؤلاء الذين يدفعهم للعمل مصلحة سورية ومستقبلها، هؤلاء هم فقط من سنعترف بهم كآباء مؤسسين لسوريتنا الجديدة.