اللاجئون السوريُّون.. عبَرَاتٌ وعِبَر

2022.01.29 | 05:57 دمشق

66_3_0.jpg
+A
حجم الخط
-A

اختصَّت سوريا بما لم تختص بها غيرُها، من بلدان الربيع العربي، بموقعها الجيوسياسي، وبطيعة النظام الحاكم، فهي مِن أكثر الدول تعالُقًا مع فلسطين، جغرافيًّا، وديمغرافيًّا؛ ما يعني حساسيةً بالغة، بالنظر إلى انعكاس أيّ تغييرٍ سياسيٍّ فيها على أمن إسرائيل، وهي التي ظلَّت بمأمَنٍ من النظام في سوريا، منذ اتفاقية فكِّ الاشتباك، 1974، في الوقت الذي التحمت فيه الطبقةُ الحاكمة مع الجيش والمؤسسة الأمنية. فلذلك لم يمكن أن يُصار فيها إلا ما صار في تونس ومصر، من تسلُّم قادة الجيش زمامَ الحكم، كضمانةٍ للحفاظ على النظام السياسي؛ وصولًا إلى احتواء الثورة، بل إلى الانقلاب عليها.

ومع أن طبيعة النظام في ليبيا كانت قريبة من طبيعته في سوريا؛ من حيث استحواذ القذافي على السلطة، بما لا فكاكَ بينهما، إلا أن الحرص الدولي عليه لم يكن كالحرص على نظام الأسد، ولذلك سمحت واشنطن بالدعم الروسي والإيراني المباشر والواسع للنظام، وهي تعلم أنه لولا هذا الدعم لما أمكنه البقاء.

وهذا ما جعل الشعب السوري يدفع أفدح الأثمان، ولتكون أزمته الإنسانية الماثلة طعنةً في آمال بقيَّة الشعوب العربية الآمِلة في استعادة نفسها، وكرامتها وعدالتها. وهنا تكتسب القضية السورية رمزيةً عالية في هذا الاتجاه الشعبي التحرُّري، ليس من دولة الاحتلال التي طالما أرّقت جرائمُها في فلسطين كلَّ الشعوب العربية والإسلامية، وحسب، ولكن لاستعادة الشعوب العربية ذاتها، ولرفع قبضة النُّظُم العسكرية الخانقة على أنفاسها، والمصادِرة لإرادتها.

وفي مفردات المأساة السورية، غير قتل عشرات الألوف من الضحايا، وغير تدمير مدنها، وكثير من تجمُّعاتها السَّكَنية، وغير اعتقال وتغييب ما لا يكاد يُحصى من مشاركين في الثورة، وممَّن يُشتَبه، أو حتى من تُخشَى مشاركتُهم، وغير التجويع والحصار، وهتك الكرامة والأعراض، غير كلِّ ذلك، وفي صُلْب تلك المفردات مفردةُ اللجوء، تكتسب دلالات خاصَّة، فلماذا؟

صُمِّمت تلك المخيَّمات التي آوَتهم لتبقى، ولتبقى، لسنواتٍ عِجاف، علاماتِ بؤسٍ إنساني، كأنه آتٍ من عصورٍ أخرى، بالغة الهمجية والقسوة والتَّرْك والنِّسيان

ربما لأنها الأكثر تمثيلًا للثمن المَرْئِي من سائر الشعوب العربية التي تضامنت مع ثورة السوريين، والتي ألهمتها، أو قد تلهمها روحُ تلك الثورة، فاللاجئون ومخيمات اللجوء توزّعت في البلدان المجاورة في الأردن، ولبنان وتركيا والعراق، فوفق المنظمة السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين: "استمرَّ الوضع في سوريا، في إحداث أكبر أزمة نزوح، في جميع أنحاء العالم، مع نزوح أكثر من 6.7 ملايين سوري داخل البلاد، واستضافة تركيا ولبنان والأردن والعراق ومصر لنحو 5.5 ملايين لاجئ".

وصُمِّمت تلك المخيَّمات التي آوَتهم لتبقى، ولتبقى، لسنواتٍ عِجاف، علاماتِ بؤسٍ إنساني، كأنه آتٍ من عصورٍ أخرى، بالغة الهمجية والقسوة والتَّرْك والنِّسيان. وفي ظروف مُهينة، ومؤلمة، بما يفوق الاحتمال.

والذريعة هي عدم الإقرار بتغييرات ديمغرافية، شبيهًا بما حصل، من عقود، للشعب الفلسطيني الذي قُوِّض وطنُه، ووجوده الطبيعي في أرضه، على يد المشروع الغربي الصهيوني. (ولذلك لم يكن مستغرَبًا أن يأتي تضامن الفلسطينيين مع السوريين أكثر اقترابًا، فالفلسطينيُّ يحسُّ في أعماقه بمقادير التقاطُع في مصابٍ واحد، والذي التحم كثيرٌ من أبنائه مع السوريين، بعد النكبة، عام 1948، وتداخلوا في النسيج الواحد. عندما لم يشعر الفلسطيني اللاجئ أنه غريبٌ في سوريا).

ومن هنا، فإن مأساة اللاجئين السوريين ليست إنسانية، فقط، فوراء البُعْد الإنساني أبعادٌ سياسية، فبذريعة انتظار حلٍّ سياسي مع النظام في دمشق، استُبْقِيَ هؤلاء الضحايا، سنةً بعد سنة، وشتاءً بعد شتاء، منذ ما يزيد عن عشر سنوات، في ظروفِ تعذيبٍ، شاملةً الأطفالَ وكبار السِّن، والنساء والرجال، ليكونوا أُمثولةً وعِبْرةً لسائر الشعوب العربية؛ أنْ تحتمل، بل أن تشعر بنوعٍ من الإنجاز والمكاسب؛ أنها لا تزال تحافظ على أوضاعها، مهما بلغت من الضِّيق والمظالم.

فالظروف البالغة القسوة، في خيمة لا تقي حَرًّا، ولا بردًا، ليس مَنْشَؤُها في الأساس، عجزًا ماليًّا، أو نقصًا في الإمدادات الضرورية، وإنما تواطؤ دولي وعربيٌّ رسميّ على استبقاء هذه الأوضاع، لتكون ورقةَ ضغطٍ للقبول بحلول منخفضة السقف: (أنْ نعودَ كما كُنّا، ربما) تلك العودة غير المضمونة، على أيِّ حال، وإلا فما الذي يجبر هؤلاء، وقد خَبِروا المعاناة، وعاشوها، لحظةً بلحظة، ما الذي يجبرهم على تفضيل البقاء في المخيمات على العودة إلى سابق حياتهم في بلدهم؟ إلا أنْ يكون ما ينتظرُهم هناك أَخْوَفَ عليهم مِن بقائهم هنا. وهي الفكرة التي لا يسعى النظام في دمشق إلى تبديدها؛ تحقيقًا لمخطَّطات التغيير الديمغرافي.

نعم، ليس السبب هو انعدام القدرة على التخفيف عن اللاجئين، إذ استطاع أفراد، كما فعل اليوتيوبر الكويتي الشاب أبو فلة، وبمبادرات غير حكومية، كما "حتى آخر خيمة"، تحقيق إنجازات في الإيواء، وهي سائرة في هذا الاتجاه، بتبرُّعاتٍ استجابَ لها السوريون، إضافة إلى أبناء المنطقة؛ تعبيرًا عن توحُّدهم، ومسؤولياتهم، وتخفيفًا من آلامهم، الناجمة عن عجزهم؛ فاغتنموا الفرصة السانحة، بتقديم ما يمكن تقديمه، للخروج من دائرة المتفرِّج، وهم يداخلهم ذلك الشعورُ بالخذلان والنسيان لما لا يمكنهم نسيانه. وجاءت هذه الهبَّة العربية الإنسانية لتقول: إن ما يُراد أن يُجعَل عاديّا، وعلى رغم السنين، لن يكون عاديًّا، هذا ما نلحظه في حديث الناس اليومي، كلما اجتاحت المنطقة عاصفةٌ ثلجية، أو تدنّت درجات الحرارة؛ شعورٌ بالغُصَّة، والتقصير المحرِج، إزاء إخوانهم السوريين المنكوبين، وهذا ما نشهده على مواقع التواصل الاجتماعي مستمرًّا، برغم تسارُع الشواغل الخاصة، بكل بلدٍ عربي، وشعبه.

غالبية الشعوب العربية تخوض صراعًا معلَنًا، أو غير معلَن، مع أنظمتها السياسية، وتتطلع إلى استعادة حضورها، بعد عقودٍ من التغييب والوصاية

إن ما يسمى بالمجتمع الدولي، والأمم المتحدة، والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، بالإضافة للحكومات العربية تشترك في التواطؤ على استمرارية هذه الأزمة، بكامل آلامها، دون أن تنصبَّ جهودٌ حقيقية على التخفيف عن اللاجئين، في وقتٍ لا تبدو في الأفق أيُّ علامة على حلٍّ سياسيٍّ قريب، هذا، ولا يمنح تنسيقُ بعض تلك الحملات مع جهات حكومية عربية أو دولية، كما كان من حملة أبو فلة التي جاءت تحت شعار" لجعل شتاءهم أدفأ" صكَّ براءة لتلك الجهات، بقدر ما يندرج ذلك في احتواء تلك المبادرات، والتحكُّم بها، بما لا يضمن تحقيقها الكامل لأهدافها النبيلة.

فليس سرًّا أنّ غالبية الشعوب العربية تخوض صراعًا معلَنًا، أو غير معلَن، مع أنظمتها السياسية، وتتطلع إلى استعادة حضورها، بعد عقودٍ من التغييب والوصاية، والمصادَرة لإرادتها، والتي أفضت إلى نتائج مأسوية، من الفقر والبِطالة، وسوء الخِدْمات الصحية، والمُخرَجات التعليمية، وسائر جوانب الحياة، لكنها وإزاء المأساة السورية الشاخصة للعيان يُرادُ لها أن تبقى حبيسةَ المقارنة بين سيِّئ وأسوأ.