ربما هي المرة الأولى في التاريخ التي يتم فيها معاملة الضحية كعدو للحكومات وللشعوب أيضاً بينما يعلن الجلاد صديقاً مبجلاً في مكان ومقدساً في مكان آخر.
هاهم السوريون الباحثون عن ملاذ آمن يتعرضون لكل أنواع الاضطهاد ولا سيما من أبناء جلدتهم في البلدان العربية، -وبشكل خاص في لبنان، البلد الأقرب للسوريين جغرافياً ونفسياً- ويُعاملون وكأنهم سبب أزمات تلك البلدان ومصدر القلق الأساسي فيما يتعلق بأمنها واستقرارها واقتصادها.
وفي الواقع فإن السبب الرئيسي لاضطهاد الضحايا والهاربين من بطش الأسد ونظامه يكمن في تراخي المجتمع الدولي واختفائه من على شاشات رادارات العدالة، وقبوله بإعادة تعويم المجرمين وفرض التعامل معهم كقادة بشكل مباشر أو غير مباشر.
لم تكن القوى العظمى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية متسامحة وودودة مع مجرم حرب كما فعلت -وما تزال- مع بشار الأسد، ويعود هذا التسامح إلى يوم تتويج الوريث حيث دعمت الولايات المتحدة عبر وزيرة خارجيتها حينذاك مادلين أولبرايت أول وأكبر عملية احتيال وتزوير فيما يتعلق بتداول السلطة الذي حدث بعد وفاة حافظ الأسد، فأغمضت عينيها عن الاختراق الذي حدث للدستور السوري الذي لا يقف فقط عند تغيير المادة الخاصة بعمر الرئيس، بل بجعل السلطة بالوراثة، وهو ما لا يمكن أن يتوافق مع أي دستور جمهوري، لكن ذلك كله لم يستوقف الإدارة الأمريكية حينها ولم يدفعها للتردد في دعم عملية التوريث.
أول جريمة كبيرة فعلها بشار الأسد تمثلت في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، عام 2005، بالاشتراك مع حزب الله، أي بعد سنوات قليلة من استلام بشار للسلطة، وبعد سنوات طويلة من احتلال النظام للبنان، وحينها اجتمع اللبنانيون لأول مرة وتوحدوا على موقف الخلاص مما سموه الاحتلال السوري، وأصروا على كشف الحقيقة وهم يحمّلون النظام السوري مسؤولية الجريمة تماماً كما يفعلون اليوم في تحميل اللاجئ السوري مسؤولية أزماتهم، وشتان ما بين الأمس واليوم.
بعد مقتل الحريري تتابعت الجرائم التي استهدفت خصوم الأسد وحزب الله في لبنان، وتم اغتيال شخصيات وطنية كبيرة، وكانت أميركا في كل مرة تحدث ضجة واسعة وتوجه أصبع الاتهام للأسد ثم لا تفعل شيئاً يؤثر عليه بشكل حقيقي
ورغم الضجة الكبيرة التي أحدثتها تلك الجريمة، ورغم الأدلة القاطعة التي كانت تشير إلى دور الأسد الأساسي فيها، فقد طويت صفحتها ومرّت من دون أي إجراء حقيقي أو عقاب أو ملاحقة، وبات ملف الحريري وراء ظهر الأسد رغم أنه لم يغلق نهائياً حتى الآن، وكانت العقوبة الوحيدة حينها هي إجبار الأسد على الانسحاب من لبنان، وحدث ذلك شكلياً حيث بقيت سيطرة الأسد على البلد الجار مستمرة ولكن بطريقة مختلفة، ما يعني أن تلك العقوبة لم تحقق أياً من أهدافها.
بعد مقتل الحريري تتابعت الجرائم التي استهدفت خصوم الأسد وحزب الله في لبنان، وتم اغتيال شخصيات وطنية كبيرة، وكانت أميركا في كل مرة تحدث ضجة واسعة وتوجه أصبع الاتهام للأسد ثم لا تفعل شيئاً يؤثر عليه بشكل حقيقي.
بعد اشتعال المظاهرات في سوريا، لم تتوقف الإدارة الأميركية عن إدانة الأسد وجرائمه ضد الشعب السوري، وخصوصاً المجازر الجماعية التي ارتكبها في الحولة وبانياس وغيرهما من المناطق السورية، ثم إدانته لاستخدامه البراميل المتفجرة وصولاً إلى الكيماوي الذي اعتبره الرئيس الأميركي حينها باراك أوباماً خطاً أحمر.
واخترق الأسد ذلك الخط وافتعلت أميركا/أوباما حينها ضجة أكبر من سابقاتها وحركت أساطيلها لمعاقبة الأسد، ووضعت العالم برمته في حالة ترقب يقينية، انشغل العالم حينها بتوقيت الضربة الأميركية على سوريا وبحجمها وطبيعتها، ولم ينشغل باحتمالية تراجع الولايات المتحدة عنها، لكن أميركا فعلتها وتراجعت، وربما فعلت ذلك لأول مرة في تاريخها، وأسفر ذلك التراجع عن صفقة تقتضي تسليم السلاح الكيماوي مقابل إلغاء العقوبة، أي إن الولايات المتحدة كررت نمط العقوبة الذي اتبعته بعد مقتل الحريري، هناك في لبنان خرج الأسد شكلياً، وفي حالة الكيماوي سلمه شكلياً أيضاً.
وقبل سنوات أثارت صور قيصر عن المعتقلين الذين ماتوا تحت التعذيب في سجون الأسد ضجيجاً أكبر، وكانت تلك الجريمة بحد ذاتها كافية لعقوبة حازمة بحق الأسد ليست أقل من إسقاطه وسوقه إلى محكمة العدل الدولية، هكذا اعتقد السوريون، غير أن ما أسفر عنه جهد الولايات المتحدة هو صدور قانون قيصر مع مجموعة عقوبات لم تؤثر على الأسد، بل أسهمت في زيادة معاناة الشعب السوري.
بعدها بات ملف الكيماوي بدوره خلف ظهر الأسد، وكذلك ملف قيصر، قبل أن يفجّر الإعلام ملف حفرة التضامن الذي شغل الرأي العام العالمي، وتصدرت الولايات المتحدة المشهد لإدانة تلك الجريمة البشعة والتأكيد على محاسبة الأسد، ثم ما لبث ذلك الملف أن هدأ وتراجع وكأن شيئاً لم يكن، كانت العقوبة التي ارتأتها الإدارة الأميركية حينها هي مجموعة من التصريحات التي تتحدث عن اختراق القانون الدولي ومجموعة من الإدانات اللفظية، قبل طي الملف الجديد بدوره ووضعه في ثلاجة المواقف السياسية.
بعد كل ذلك بدأت الحكومات العربية في تطبيع علاقاتها مع الأسد تحت سمع وبصر الولايات المتحدة، التي استهجنت واستنكرت وصرحت وأعلنت، لكنها لم تفعل شيئاً يعيق عملية التطبيع تلك بخلاف إعلانها عن عدم رضاها، واقتصر ذلك على التظاهر فقط، فكثير من الدول المطبعة لم تكن لتجرؤ على ذلك لو لمست جدية في الموقف الأميركي تجاه الأسد، وما قانون مقاطعة التطبيع الذي تنشغل به الولايات المتحدة وتشغل السوريين به اليوم سوى نسخة مكررة عن عقوباتها الأخرى التي لم تعق الأسد ولم تحد من إجرامه وتماديه في إذلال الشعب السوري.
إن سلسلة الجرائم وجرائم الحرب المتعددة التي ارتكبها الأسد في لبنان وسوريا والمتنوعة في شكلها ومضمونها ووسائلها وأدواتها، والتي تكفي كل واحدة منها لوضعه كهدف للعدالة الدولية، لم تسفر فعلياً عن أية عقوبة حقيقية، ربما باعتبارها جرائم سياسية، أو أنها جرائم ضد السوريين واللبنانيين فقط ولا تهدد شعوب العالم.
غير أن الامتحان الأهم لموقف أميركا من الأسد سيتمثل في قضية الكبتاغون، أي في الجريمة الجنائية هذه المرة، وهي جريمة عابرة للحدود ولا يمكن للقوى الكبرى السكوت عنها ولا سيما بعد كل الإحداثيات التي أثبتت تورط الأسد ونظامه وحلفائه في تصنيع وإنتاج وتهريب تلك المواد المخدرة، وبعد الاتهامات المباشرة واليقينية التي وجهتها أميركا بالذات للأسد، لكنها مع ذلك لم تفعل شيئاً سوى التفكير في قانون مكافحة الكبتاغون وليس مكافحة صانعيه وتجاره.
إن الكبتاغون بحد ذاته، مثله مثل السلاح الكيماوي، ومثل البراميل المتفجرة، مادة حيادية لا يمكن معاقبتها، فمن يستحق العقاب هو مستخدمها، تلك بدهية لا تستحق الإشارة أو التعليق أو التذكير، فبماذا سنعاقب المسدس إن ارتُكبت به جريمة قتل؟ وهل ستخاف المسدسات الأخرى وتأخذ العبرة وتتمرد على مستخدميها لو فعلنا ذلك؟
هذا ما فعلته أميركا حتى الآن مع الأسد، فقد سعت في كل الجرائم إلى استصدار قوانين لمكافحة نوع الجريمة وليس لمعاقبة الفاعل، ويبدو أنها اعتمدت على نتائج صفقة الكيماوي حيث أسست عرفاً في مفهوم العدالة يقضي بتسليم السلاح مقابل العفو عن مستخدمه، إدانة الجريمة والعفو عن المجرم، وكأن المجرم هو السلاح نفسه وليس من استخدمه.
وها هي اليوم تفعل الشيء ذاته فيما يتعلق بقضية الكبتاغون، ولكن الكبتاغون ما يزال حراً طليقاً يسافر إلى كل بقاع الدنيا بلا جواز سفر مدعوماً بالقوة العسكرية والسياسية والدبلوماسية لمحور الممانعة/ المتاجرة، وفيما تكثر التصريحات تنتشر تلك التجارة القاتلة باستمرار وعلى نطاق أوسع ولربما تدور في الخفاء صفقة تقضي بتسليم الكبتاجون مقابل العفو عن تجّاره.
إذا كان الشرق الأوسط برمته لا يهم القوة العالمية الأكبر على مستوى الجرائم السياسية، فإن تجارة الكبتاغون ليست شأناً شرق أوسطي، وهي امتحان للقوى العظمى عن مدى رضاها عن التطبيع مع الجريمة الجنائية بعد أن مضت قدماً في التطبيع مع الجريمة السياسية ومجرمي الحرب..
إذا كان الشرق الأوسط برمته لا يهم القوة العالمية الأكبر على مستوى الجرائم السياسية، فإن تجارة الكبتاغون ليست شأناً شرق أوسطي، وهي امتحان للقوى العظمى عن مدى رضاها عن التطبيع مع الجريمة الجنائية بعد أن مضت قدماً في التطبيع مع الجريمة السياسية ومجرمي الحرب، وإن استمر ذلك فستتحوّل الجريمة إلى فعل اعتيادي لا يلفت النظر ولا يستحق الوقوف عنده، وهو أخطر العواقب التي تنتظر البشرية إن استمر غياب العدالة بتلك الطريقة المتسامحة والودودة التي يتم من خلالها التعامل مع الجريمة.
إنه لمن المفارقة بمكان أن تقف حكومة لبنان وقسم كبير من الشعب اللبناني ذلك الموقف المتشدد من ضحايا بشار الأسد ويتناسون أنهم بدورهم ضحاياه سواء من خلال احتلاله لبلدهم أو من خلال الجرائم التي ارتكبها في لبنان، فضلاً عن أن العدو الأساسي للبنانيين اليوم هو حزب الله الذي يحتل بلدهم علناً ويعلن ولاءه بوضوح لدولة أجنبية، ومع ذلك فإن الحكومة اللبنانية وجزءاً كبيراً من الشعب اللبناني يعاملون السوري الضحية كعدو في أغرب مفارقة يشهدها العصر.
عندما بدأت الثورة في سوريا اتخذ لبنان الرسمي موقف الحياد، ولكن عندما تضخمت مشكلة اللاجئين انحاز لبنان الرسمي إلى جانب الجلاد وراح يشاركه في الانتقام من ضحاياه.
سيبقى الكبتاغون حراً طليقاً، وسيبقى المجرمون أحراراً وسيبقى العدو هو الضحية البريئة، طالما بقيت الشعوب فاقدة لبوصلتها وطالما بقيت القوى العظمى محافظة على تسامحها مع مفهوم الجريمة.