icon
التغطية الحية

الكتابة والصمت.. بين الحرية والمقاومة

2022.10.08 | 18:01 دمشق

زنزننت
+A
حجم الخط
-A

فعل الكتابة في سياقات المواجهة مع القمع والسلطة القمعية، فعلٌ يعلن فيه الكاتب استحواذه على شطر مهم من حريته، حيث تكتنف الكتابة في جوهرها، على مقاومة الكبت والقمع وكم الأفواه والسجن بشتى تجلياته.

ومن خلال قص الحكايات وفضح ما خبأته عتمات الزنازين وأقبية التعذيب، وتوثيق تاريخ المقاومة وتخليد الضحايا وحكاياتهم، يمكننا القول إن فعل الكتابة يشكل إصراراً معانداً رغم مخاطره على اجتراح أسباب الحرية، التي لا تتأتى إلّا بمقاومة السلطات ومحاربتها في نهاية المطاف، فالكتابة بوصفها فعلاً توثيقياً وتأريخيا وتثقيفيا وتعليميا وفاضحاً ومدينا ومحاكماً، لا تكفي منفردة بإسقاط الديكتاتوريات وتغيير القوانين الجائرة، لكنها وبضربة واحدة جريئة تثقب جدار الصمت وتسقط إهاب الخوف، وتقدح شرارة الرفض، وتحط من قدر تلك الديكتاتوريات بعد أن كانت تتربع على عرش آلهة الاستبداد.

ومن الصعب تذكر حركة تحررٍ أو ثورةٍ، لم تنطلق شرارتها من مقولات وآراء ضمها كتاب أو مجموعة من الكتاب، حتى ليمكننا أن نعتبر الكتّاب، أنبياء الثورات والمبشرين بمخاضاتها.

يقول سارتر "إن حرية الاختيار هي سمة مشتركة بين الكتاب جميعاً، ملتزمين وغير ملتزمين، وهي أساس المطالبة بالالتزام" فالكتابة أولاً فعلٌ ينطوي على قدر وافر من الحرية، ولا يغيب عنا أن مراعاة الكاتب لقارئه المتخيل، أو للرقيب المتمثل بالسلطة الزمانية أو المكانية، يشكل ضرباً من ضروب القيود التي تحد من فورة الإبداع وتلوي عنق الحقيقة التي يراها الكاتب أو يهدف للتبشير بها، كل هذا يحدث بمقادير نسبية متفاوتة لدى الغالبية العظمى من الكتاب.

خلال سبعين سنة من حكم الأنظمة الديكتاتورية في الوطن العربي، يمكننا تتبع آلاف المسيرات المؤيدة والمهللة لأدنى فعلٍ أو قرار تقدم عليه تلك الأنظمة ولا سيما القرارات المتخاذلة والمشينة

على الضفة الموازية لفعل الكتابة وهو فعل مبادر يكاد يشبه الصرخة في صحراء مظلمة، يتجلى بعض الصمت هناك كفعلٍ مقاومٍ، يتمثّل به بعض من يرفض الثغاء مع القطيع، وفي تجارب معاصرة بدءا من التجربة النازية والشيوعية الصينية والسوفييتية، وكثير من الأنظمة العربية التي ضارعتها، وربما بزتها في فرض التسلط المفرط ومسخ إنسانية الإنسان، وإكراه المجتمعات التي حكموها على التصفيق والتهليل، والركوع والسجود لآلهتهم الحاكمة، والتي صورها جورج أورويل في روايته "1984" أبلغ تصوير، وهذا حال الكثير الكثير من السوريين، خارج سوريا وداخلها، ممن يتمسكون بالصمت كفعل مقاوم في مواجهة سيول هادرة من القطعان المهللة، والمؤيدة بنفاق يذري بما تبقى من كرامة إنسانية.

خلال سبعين سنة من حكم الأنظمة الديكتاتورية في الوطن العربي، يمكننا تتبع آلاف المسيرات المؤيدة والمهللة لأدنى فعلٍ، أو قرار تقدم عليه تلك الأنظمة، ولا سيما القرارات المتخاذلة والمشينة، وكأنها تؤكد ولو كرهاً، أنّ شرعيتها إنما تستمد من تلك الجماهير الغفيرة، التي تهدر في الشوارع وهي ترفع صورة القائد الملهم، الذي أنار البلاد وبارك العباد بفيوضاته العلوية، في هذه الأجواء الهيستيرية المحكومة بالرعب الطامي والخوف المطبق، يتجلى الصمت كفعلٍ مقاومٍ ورافضٍ للانسياق مع الجموع، إن القدرة على اختيار اتجاه يخالف اتجاه القطيع، لهو مغامرة كبرى وفعل ينطوي على روح البطولة والبسالة، فكيف إذا كان تعبيراً عن موقف سلبي من تلك السلطة، التي تقود ذلك القطيع، مع معرفة ما فعلته تلك السلطة بمعارضيها حتى الصامتين منهم.

في تجربةٍ فريدةٍ من نوعها خلال حياتنا في سجن تدمر، اقترح بعضنا ألا نصرخ خلال جولات التعذيب، تلك التي كنا نتعرض لها كفرض يومي صباح مساء، حيث كانت الساحات تضج بصراخنا الذي يطاول عنان السماء، ويمتع جلادينا فيزدادون نشوةً وسعاراً كلما علا ذلك الصراخ، كان الامتثال لهذا الاقتراح "عدم الصراخ في أثناء تلقي التعذيب" فعلاً مقاوما وتحديا مجنونا، وربما عده بعضنا محض انتحار، لكنه سرعان ما أثار غضب الجلادين ورؤسائهم، فبالغوا في مقدار التعذيب الذي كانوا يسوموننا إياه حتى ضاعفوه، لكن أثر ذلك التعذيب كان يذوي في نفوسنا بفعل المقاومة التي كنا نبديها، وبفعل الغضب الذليل الذي كنا نراه بادياً في وجوه معذبينا وكأنهم يتذوقون الهزيمة للمرة الأولى، وهكذا انتقلنا من طور الجسد الضحية، الذي يتلقى التعذيب مستسلماً متوحداً مع عذابه، إلى طور المقاومة والمجالدة التي تشتعل فرحاً بألم الخصم عن آلامها المألوفة، وصرنا ننتظر ساعة التعذيب وكأننا ننتظر فسحة للمجالدة، إلى أن وصل بهم الأمر أن يصدروا الأمر للجلادين أن يستمروا في تعذيبنا حتى نصرخ ألماً، فإذا صرخنا كفوا عن فعلهم، وهذا ما اعتبرناه يومها انهزامهم أمام صمتنا.

واليوم ونحن نعاتب كثيرين ممن عرفناهم واضطرتهم الظروف البائسة والقهر الذي يعيشونه إلى مداهنة عصابة الإجرام في سوريا ورفع الصوت عالياً مناصرةً منافقةً لها، لا نرجو منهم مواقف تتسم بالبطولة، وهي فوق طاقتهم بآماد، إنما نتمنى عليهم أن يلتزموا بفضيل وبطولة الصمت، وليس دون ذلك حد مقبول.