القضايا المحقَّة لا تموت.. فلسطين وسوريا

2023.01.31 | 07:20 دمشق

مظاهرة ضد التطبيع
+A
حجم الخط
-A

يذهب ابن خلدون في "المقدِّمة" إلى "أنَّ المغلوب مُولَعٌ أبدًا بالاقتداء بالغالب؛ في شعاره وزِيِّه ونِحْلَته وسائر أحواله وعوائده"، ويُعيد السبب في ذلك إلى اعتقاد المغلوب بكمال غالبِها، فتعظِّمه، وتنقاد له.

غير أن تجليَّات التاريخ لا تجعل من ذلك قاعدةً مُطَّرِدة، إلا أنْ يكون شعور المغلوب برفعة الغالب وتفوُّقه، تحققت فعلًا، وليس انتصاره الغالب المادي، وبسطه سيطرته، بأدوات عسكرية، أو شبه عسكرية، كافيًا لتحقيق الخضوع الذاتي والداخلي في الشعوب المغلوبة.

ومثالًا على ذلك ما حصل مع الغزو التتري، إذ حصل في غير موقع، وبلد، أنْ تأثَّر التتار بثقافة الشعوب التي غلبوها، وكذا أثبتت ظاهرة حركات المقاومة والجهاد في البلاد العربية التي خضعت للاستعمار الغربي الحديث خروجًا عن هذا الحُكْم.

ولنأخذ فلسطين وسوريا مثلين على استمرارية المقاومة، برغم كلّ المعاناة والآلام والتضحيات، وتواطؤ عدد من الدول الفاعلة، ومحاصرة الظروف القاسية؛ من قتل وسجن وتهجير، وهدم للبيوت، فضلًا عن حملات التوهين والتخذيل.

في فلسطين، كانت مقولة:" الكبار يموتون، والصغار ينسون" التي أطلقها دافيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، وبعد مرور أزيد من سبعين عامًا على قيام إسرائيل وتهجير الشعب الفلسطيني، وبعد عديد الخطط الصهيونية، واستخدام ما لا يكاد يُحصَى من أساليب القهر، بمحْو الوجود، ومَحْو الذاكرة، وبرغم الظروف الدولية غير المساعِدة، إن لم نقل المعادِية، وبرغم المحيط العربي والإقليمي غير المساعد كذلك، إنْ لم نقل، المتواطئ، على المستوى الرسمي، برغم عامل الزمن الذي من شأنه تبريد الصراع، وتكريس الواقع المَعِيش، إلا أن الوعي الفلسطيني بذاته ووجوده لم يتلاشَ، بل إن الأجيال التي لم تشهد النكبة 1948 (التي أفضت إلى ضياع الساحل الفلسطيني، وأهم حواضر فلسطين؛ من يافا وحيفا وعكّا، وغيرها)، والأجيال التي لم تعِش النكسة، 1967، (والتي أجهزت على ما تبقَّى من فلسطين)، هذه الأجيال ظلَّت تثبت حضورَها، واستمرارها على رفض الاحتلال، ومقاومته، بعنفوان لا يقلّ عن عنفوان الذين تجرّعوا ألَمَ الطرد من بلادهم، والذين قاسَوْا مجمل فظائع النكبة والنكسة؛ فالكبار ماتوا، والصِّغار لم ينسوا.  

ولم تفلح إسرائيل، دولة الاحتلال، برغم تفوُّقها المدني، والعُمراني والتقني، في إشعار الفلسطينيين، بالمجمل، بالضآلة، أو أنْ تحملهم على التسليم والخضوع. وهذا ما دلّت عليه انتفاضةُ الحجارة، أواخر عام 1987، وكذلك انتفاضة الأقصى، عام 2000، وأخيرًا الأحداث التي شهدتها الأيام الأخيرة في القدس، كما في العملية الفائقة التي نفَّذها الشاب خيري علقم، وعمرُه 21 عامًا، وتبعها الهجوم الذي نفَّذه فتى عمرُه 13 عامًا، وقبلهما الاشتباكات الدامية في مخيَّم جنين، إذ متصدِّرو المجابهة مع قوات الاحتلال ومستوطنيه هم من جيل الشباب، والفتية.

ولا يختلف، جوهريًّا، الحال على الصعيد السوري، إذا ثارت جموع السوريين ضد نظام الأسد الذي حكمهم، على مدار عقود، بالظلم والبطش، وامتهان الكرامة، بتغييب الشعب السوري، وقواه الحقيقية، بالاستئثار بالسلطة، وثروات البلد، إلى طغمة حاكمة عائلية؛ تستخدم الطائفية، في حماية نفسها، فضلًا عن تحالفاتها الدولية، أو تبعيتها، لاستبقاء حكمها غير المستند إلى قاعدة شعبية، أو غير المؤسَّس على شرعية انتخابية.

والسوريون، اليوم، وبعد مرور، قرابة اثني عشر عامًا على ثورتهم، وبعد الأثمان الفادحة التي دفعوها، وبرغم كلِّ الضغوط المحاصِرة لهم، وما يقع على قسم منهم، في بلاد اللجوء؛ من اعتداءات عنصرية، تصل إلى القتل، فما بعده، لا يزالون يُظهِرون رفض التراجُع، والتصالُح مع نظام لم يتغيَّر، حتى يتغيَّروا، أو يُغيِّروا موقفَهم منه.

هنا، نحن بحاجة إلى تحديد مفهوم الغَلَبة، وإن كان المتبادَر إلى الذهن أنه العسكري الذي قد يتوِّج معه عناصر قوة أخرى، لكن ها نحن نشهد حالة شعوب غلبها عدوُّها، ولكنها لم تخضع، خضوعا تامًّا، أو تسلّم له

وكانت التطورات التي حدثت مؤخَّرا، والتي أبدت بوادر اقتراب من نظام الأسد للتصالح معه، بمثابة جسّ نبضٍ لتلك الحالة الرافضة للتصالح، مع النظام والنكوص عن مطالبهم المحقة؛ فكان ردُّ الفعل الواسع الرافض مثيرًا، وغيرَ عاديٍّ، إذ "شهدت مدن وبلدات عديدة خاضعة لسيطرة المعارضة السورية، شمال غربي البلاد، تظاهرات حاشدة؛ ردًّا على التقارُب التركي مع النظام السوري، وتعبيرًا عن رفضهم الصلح مع النظام، مطالبين بإسقاطه وتحقيق العدالة والكرامة للسوريين".

هنا، نحن بحاجة إلى تحديد مفهوم الغَلَبة، وإن كان المتبادَر إلى الذهن أنه العسكري الذي قد يتوِّج معه عناصر قوة أخرى، لكن ها نحن نشهد حالة شعوب غلبها عدوُّها، ولكنها لم تخضع، خضوعا تامًّا، أو تسلّم له، مع الإقرار بجوانب، أو آثار بادية، تركها قَهْرُ عدوِّها عليها.

ذلك أنّ تمكُّن العدو الخارجي، أو الظالم الداخلي المدعوم من الخارج، من الشعب لا ينفكُّ يولِّد عواملَ نقيضة له، ما دام الشعب حيًّا، بقضيَّته، وإيمانه بها، واستشعاره وجودَه أصلًا.

فلا يتوقَّع أن يُكتَب للقاهر استتبابُ أمره، إلا إذا نجح في تمويت أفكار الشعب المغايِرة له، والمعاندة لوجوده، وهنا الحكم هو قوة الفكر، مقابل الفكر المفروض؛ الدخيل، أو ضعف الإرادة، أمام قوة أدوات القاهر المادية. وقد يعتري الشعبَ تعبٌ عارِض، وقد يطول نسبيًّا، ولكنه في عُمْر الشعوب والأمم ليس طويلًا، ولن يكون.  

بالتأمل، المبني على الوقائع، نصل إلى أن الشعب الفلسطيني والسوري لم يقع في قرارهما، فكرًا وحضارة، ووجدانًا، أفضلية قاهرِه عليه، بل الحاصل هو انتقاص الفلسطينيين للاحتلال ودولته، وانتقاص السوريين للأسد وسلطته، انتقاصًا يصل حدَّ السخرية منهما، ليست السخرية القولية فقط، ولكن نهج السخرية والاستخفاف، يقابله ذلك المأزوم: دولة الاحتلال ونظام الأسد، ببطش مبالغ فيه، كما في انتهاج إسرائيل نهج العقوبات الجماعية؛ من معاقبة عائلات منفِّذي عمليات المقاومة، التي تصل إلى هدم بيوتهم وإبعادهم (كما في سكّان القدس) إلى خارجها، وحتى التلويح باعتقال أفراد عائلاتهم، وليس الأسد في سوريا، بعيدًا عن مثل هذه العقوبات الجماعية.

هذه الردود التي يريد منها إظهارَ القوة، والردع، هي بمبالغاتها الفائقة، إنما تعكس يأسًا، وضعفًا، وعجْزًا، أمام عددٍ من الفتية، المندفعين فرديًّا، وغير المُؤطَّرين تنظيميًّا، وبإمكانات تسليحية بسيطة، إذا ما قُورنت بقدرات دولة الاحتلال، ومؤسستها العسكرية والأمنية المتمتِّعة بأحدث الوسائل وأكثرها كفاءة. ولكن المعركة قبل ذلك معركة وعي، والتفوُّق قبل التفوُّق المادي تفوُّق أخلاقي وحضاري، أمام دعاوى الاحتلال الملفَّقة، وهمجيته التي باتت تزيد صورة إسرائيل، على مستوى العالم، نفورًا، بعد جنوحها الأكثر سفورًا نحو العنصرية اليمنية، المشبعة بالكراهية، وصولًا إلى إعادة تركيب الدولة، أو إعادة النظر في بنيتها.

وقصارى الأمر أنَّ الغلَبة المادية الخاوية من مقوِّمات الحق والشرعية ليست غلَبة حاسمة، بل إنها غالبًا، ما تغدو فاعليَّةَ تحريضِ ضدَّها، وآليّة إيقاظ للشعب الذي غُلِب، وما غُلِب!