icon
التغطية الحية

الفقر والخوف يدفعان السكان لهجرة جماعية من الرقة

2022.02.23 | 13:00 دمشق

ملهم ضاهر يشرب الشاي برفقة أسرته في قرية قريبة من مدينة الرقة
ملهم ضاهر يشرب الشاي برفقة أسرته في قرية قريبة من مدينة الرقة
أسوشيتد برس- ترجمة: ربى خدام الجامع
+A
حجم الخط
-A

في ساحة كانت قبل بضع سنوات تعبر عن مرحلة قاتمة من حكم تنظيم الدولة المتوحش في مدينة الرقة السورية، جلس محمود دندر غارقاً بأفكاره، إذ إنه يرغب بمغادرة سوريا، ولكنه يعاني من مشكلة واحدة، وهي أنه في الخامسة والسبعين من العمر ولا يملك المال. يتذكر محمود الأيام الخوالي قبل ظهور الاحتجاجات وقيام الحروب التي أدت إلى انهيار بلده وتدهور قيمة العملة السورية، فيجد بأن سوريا لم تكن مزدهرة في تلك الأيام، ولكن كان لديه عمل، وتمكن أولاده من الحصول على شهادات جامعية ومستقبل مشرق، كما أن الغذاء كان متوافراً على الدوام، إلا أن كل ذلك لم يعد موجوداً اليوم، ولهذا يعلق قائلاً: لقد تدهورنا كما حدث لعملتنا".

تحررت مدينة الرقة اليوم بعدما تحولت في وقت من الأوقات إلى عاصمة لدولة الخلافة المزعومة، حيث كان عدد سكانها يومها 300 ألف نسمة، إلا أن غالبية السكان الآن يحاولون الخروج من هذه المدينة والرحيل عنها، إذ يحاول من لديه أملاك فيها أن يبيع أملاكه ليؤمن نفقات السفر إلى تركيا، أما من لا يتوافر لديه المال فيكافح ليبقى على قيد الحياة.

أسباب الرحيل

يذكر أن ثلاثة آلاف من سكان مدينة الرقة رحلوا عنها إلى تركيا في عام 2021، بحسب ما ذكر عضو المجلس المحلي محمد نور، وتعود أسباب هجرتهم تغير شكل الحياة بعد الحرب في سوريا، التي تحولت إلى أعقد منطقة للنزاع في العالم، وتشمل تلك الأسباب التدهور الاقتصادي وانتشار البطالة عقب سنة من أسوأ سنوات الجفاف التي مرت على البلاد، والخشية من عودة تنظيم الدولة، وانتشار العصابات المجرمة. فضلاً عن شبح النزاع الذي يلوح في الأفق والذي يمكن أن يقوم بين القوى المتنافسة التي تسيطر على أجزاء مختلفة من الشمال السوري، وتشمل تلك القوى تركيا وروسيا وقوات النظام السوري.

يبدو على السطح تعافي هذه المدينة من آثار حكم تنظيم الدولة بشكل جلي، فالمقاهي والمطاعم تغص بالناس، كما أن القوات التابعة لـ "الإدارة الذاتية" تعمل على حراسة كل منطقة تقاطع أساسية.

إلا أن الفقر قد تفشى في تلك المدينة والتي تخضع لإدارة قوات سوريا الديمقراطية "قسد" المدعومة أميركياً، إذ أخذ الناس يصطفون في طوابير طويلة للحصول على المواد الأساسية مثل الخبز، كما أخذ الشباب العاطل عن العمل يتسكع في كل مكان، أما المياه والكهرباء فتصل خلال فترات محدودة، وغالبية السكان يعيشون بين الخرائب التي خلفها القصف، إذ يخبرنا المسؤولون المحليون بأن 30 في المئة من المدينة على الأقل قد بقي مدمراً.

ثم إن الفقر والبطالة دفعا الشباب نحو أحضان تنظيم الدولة، إذ يخبرنا محققون كرد بعملية اعتقال مجندين انضموا إلى تنظيم الدولة بعدما تم إغراؤهم بالمال وذلك خلال الشهر الماضي. وفي الوقت ذاته، وردت طلبات توظيف بلغ عددها 27 ألف طلب قدمها باحثون عن عمل لإدارة المدينة وذلك خلال العام الماضي، ولكن لا توجد وظائف متوافرة أو شاغرة.

ملهم ضاهر، 35 عاماً، مهندس مدني، يحاول حالياً بيع بيته ومقر عمله وأملاكه حتى يدفع لمهرب ليقوم الأخير بنقله إلى تركيا برفقه أسرته المؤلفة من ثمانية أشخاص، بما أن تركيا تعتبر من الطرق الأساسية التي يمر بها المهاجرون السوريون وهم يسعون للفوز بطلب لجوء في أوروبا.

قصة ملهم

نجا ملهم من الأحداث العنيفة التي وقعت مؤخراً في الرقة، والتي شملت اندلاع الحرب السورية في عام 2011، وسيطرة مقاتلي تنظيم الدولة على المدينة في عام 2014، وتحويلها إلى عاصمة لدولة الخلافة التي تمتد بين سوريا والعراق. إلى جانب قيام قوات التحالف الدولي الذي تتزعمه الولايات المتحدة بضرب المدينة التي كانت مفعمة بالحياة في وقت من الأوقات بآلاف القنابل، وذلك بهدف إخراج تنظيم الدولة منها، بعد ذلك تحررت المدينة في عام 2017، ثم خسر تنظيم الدولة آخر موطئ قدم له في سوريا في عام 2019.

خرج ملهم من الفصل الأخير الذي عاشته مدينته وهو على استعداد للاستثمار في أي شيء، لكنه واجه كثيرا من العقبات حسبما ذكر، ومنها نقص الموارد وظهور أسواق التصدير، ويعلق على هذا بقوله: "إن بعت للأهالي، فلن تحصل على أي ربح".

فمن خلال مشروعه الأول، قام ملهم بشراء البذور لزراعة الخضراوات، وعندما حان موعد الحصاد، لم يرغب التجار بدفع المبلغ الذي طلبه منهم.

ثم اشترى شاحنات مخصصة لإزالة وترحيل الركام وسط عمليات إعادة إعمار المدينة، إلا أن تلك المركبات اهترأت بسرعة نتيجة لعدم توافر وقود ذي نوعية جيدة في السوق، فضلاً عن عدم توافر مواد الصيانة، كما تعثر مشروع مصنع رقائق البطاطا وشركة خدمات الإنترنت التي قام ملهم بافتتاحهما أيضاً.

وأخيراً، بدأ ملهم بتجارة المواشي، إلا أن القحط المدمر أدى إلى عدم توافر علف للحيوانات، فنفقت المواشي لديه.

ولذلك يبيع ملهم اليوم ما تبقى لديه من مشاريع الفاشلة ليبدأ حياة جديدة، لكنه يحتاج 10 آلاف دولار حتى يقوم بذلك.

غير أن امتلاكك للمال في الرقة يمكن أن يتسبب لك بمشكلة، وذلك بسبب انتشار وتصاعد عمليات الخطف من أجل الفدية.

عملية اختطاف

تم خطف إمام الحسن، 37 عاماً، وهو شاب يعمل في مجال التطوير العقاري من منزله وقام الخاطفون الذين يرتدون بزات عسكرية مموهة باحتجازه لبضعة أيام، ولضمان إطلاق سراحه، دفع لهم 400 ألف دولار، بالرغم من أن ملكية هذا المبلغ لا تعود بكاملها له، بل أيضاً لبعض التجار الذين أودعوا تلك المبالغ لديه بما أنها تمثل كل ما ادخروه طوال حياتهم، بعد ذلك رفع إمام شكوى للسلطات المحلية، لكنها لم تفعل شيئاً حسب وصفه، إذ بعد مرور شهر على تلك المعاناة، ماتزال الرضوض ظاهرة على وجهه وساقيه.

ولذلك، يقوم إمام اليوم ببيع بيته ومتعلقاته، ويقول: "لم يعد لدي أي شيء هنا".

"يمكن للوضع أن ينفجر في أي لحظة"

يخبرنا قريبان لإمام الحسن تركا سوريا في شهر أيلول الماضي ووصلاً مؤخراً إلى أوروبا بأنه بمعزل عن الوضع الاقتصادي المجهول للبلد، كان التهديد بتجدد العنف هو الذي دفعهما للرحيل.

إذ يقول إبراهيم، 27 عاماً: "يمكن للوضع أن ينفجر في أي لحظة، فكيف أبقى هناك؟" وقد تحدث إبراهيم ومحمد، 41 عاماً، باستخدام الاسم الأول واشترطا عدم الكشف عن هويتهما خوفاً على زوجتيهما وأطفالهما الذين ما يزالون يعيشون في تلك المدينة.

وكغيرهما كثير من الناس، بدأت رحلتهما من شمال شرقي سوريا إلى أوروبا عبر الأنفاق التي تفضي إلى مدينة رأس العين، القريبة من الحدود التركية.

طلب المهرب مبلغ ألفي دولار على كل شخص، ومنذ تلك اللحظة أصبح طريقهما إلى أوروبا محفوفاً بالمخاطر.

وصل إبراهيم إلى ألمانيا خلال الأسبوع الماضي بعد رحلة شاقة بدأت في بيلاروسيا، أما محمد فقد سار مسافات طويلة قبل أن يتوجه إلى اليونان ويبحر منها بالقارب، لينتهي به المطاف في هولندا وذلك في شهر تشرين الأول الماضي.

يتحين محمد الفرصة ليأتي بأسرته من الرقة إلى أوروبا، حسبما ذكر في مقابلة أجريت معه عبر الهاتف، لكنه عاطل عن العمل حتى الآن.

بيت هادئ مليء بالاشتياق 

وبالعودة إلى الرقة، نجد ريم العاني، 70 عاماً، وهي تحضر الشاي لشخصين، إذ إن ابنها هو الوحيد الذي بقي معها في سوريا من بين أبنائها الأربعة الذين تشتتوا في بقاع الأرض.

تمتلئ السلالم التي تفضي إلى دار ريم بفتحات خلفها الرصاص وبقايا المعارك التي قامت لطرد تنظيم الدولة، أما السقف فيبدو متفحماً بسبب هباب الدخان الذي امتلأ به.

اعتادت ريم على الهدوء في البيت، لكنها تخبرنا عن أولادها وتقول: "اشتقت لهم".

وفي منطقة قريبة من بيت ريم، عند دوار النعيم، يخبرنا العجوز محمود دندر بأن ما لديه بالكاد يكفيه لتأمين المتطلبات الأساسية، بما أنه يعيش على راتب تقاعدي من وظيفته الحكومية، إلا أن قيمة هذا الراتب تتضاءل بسرعة هائلة.

يخبرنا محمود بأن أحد أولاده يحمل شهادة جامعية بالهندسة المدنية والآخر في الأدب، أما الثالث فيعمل معلماً، لكن لم يستطع أي منهم تأمين عمل، ولهذا يتمنى لو كان لديه مال حتى يساعدهم على الخروج من تلك المدينة، إذ يقول: "إنني أمضي أيامي في التفكير بطريقة للخروج".

المصدر: أسوشيتد برس