icon
التغطية الحية

العودة من الموت: رحلة البحث عبثاً عن المعتقلين السوريين المفقودين

2023.09.14 | 15:55 دمشق

صور لبعض المغيبين قسرياً في سوريا
صور لبعض المغيبين قسرياً في سوريا
BBC - ترجمة: ربى خدام الجامع
+A
حجم الخط
-A

قبالة شارع رئيسي يقع على تلة في شمالي إسطنبول، تتذكر ملك كيف اعتقل ولداها في عام 2012، إذ كان بكرها محمد في التاسعة عشرة من عمره، وكان يخدم في جيش النظام السوري حينما صدرت الأوامر بإطلاق النار على المتظاهرين من أبناء حيه، فأسلم ساقيه للريح، غير أن قوات الأمن اقتحمت المزرعة التي اختبأ فيها، واعتقلته.

بعد فترة قصيرة من تلك الحادثة، اعتقل شقيقه ماهر هو أيضاً، وعنه تقول ملك: "كان في الخامسة عشرة عندما أخذوه من المدرسة فقط لأن شقيقه انشق عن الجيش".

لم تر ملك محمداً أو ماهراً منذ ذلك الحين، لكنها حاولت أن تعثر عليهما مرات ومرات، وكانت الطريقة الوحيدة التي تدبرتها للتوصل إلى معلومات عنهما تعتمد على دفع مبالغ كبيرة من المال.

 

Malak (face unseen) at her flat in Istanbul

ملك التي لم تر ولديها منذ عام 2014

 

في معظم الحالات، تُدفع تلك المبالغ عبر وسيط يعمل لدى النظام أو له علاقاته مع أحد رجالات النظام.

بقيت ملك تتعامل طوال سنين مع محام وعدها بجلب معلومات عن ولديها، وبالأخص عن ماهر، وفي كل مرة تجتمع به، كان يطلب منها بعض المال ليوزعه على الوسطاء أو العاملين في السجن.

وعلى مدار السنين، دفعت ملك ما يربو على 20 ألف دولار لذلك المحامي، من دون أن تحصل على أية معلومة، ولهذا تحس اليوم بأنها كانت بين أيدي أناس يكذبون عليها، وعن ذلك تقول: "كنت كالغريق الذي يتعلق بقشة، ولهذا استغلوا مشاعري كأم تبحث عن ولدها".

في عام 2017، بعد أن اعتقلت هي أيضاً لفترة امتدت بضعة أشهر، غادرت ملك سوريا برفقة ابنها الأصغر رامز وبدأت حياة جديدة لها في تركيا.

تجد صور ابنيها المفقودين في كل مكان داخل شقتها الصغيرة الواقعة في الطابق الأرضي، وقد وصلت ملك اليوم لأواسط الخمسين من عمرها، وبالرغم من شعرها المصبوغ والابتسامة التي ترسمها على شفتيها وعينيها البراقتين، تحس أن هنالك ألماً عميقاً دفيناً مخفياً وراء كل ذلك.

بيد أن قصتها ليست فريدة من نوعها، وذلك لوجود كثير من السوريين الذين صرفوا مبالغ طائلة وهم يبحثون عن أحبائهم المفقودين.

ماذا يعني أن تصبح مفقوداً في سوريا؟

Woman lays flowers by photo of missing relative at an event in Berlin

فدوى سليمان وهي توزع الزهور فوق صور المفقودين

 

ثمة اعتقاد شائع بأن دفع الرشا هو السبيل الوحيد الذي يمكن من خلاله أن يصل الأهل لشيء أو لأي معلومة عن الشخص المفقود أو حتى لإخلاء سبيله، والمشكلة هنا هي أن الأمر ينجح مع البعض، لا العكس.

العودة من الموت

بدأت الحرب في سوريا بانتفاضة سلمية عام 2011 خرج فيها أغلب الناس إلى الشوارع ليطالبوا بالتغيير، إلا أن نظام بشار الأسد قمع المنتفضين العزل بوحشية، إذ أعمل فيهم تقتيلاً واعتقالاً، فطال ذلك الآلاف منهم.

كان محمد عبد السلام أحد هؤلاء المتظاهرين، إذ اعتقل عند حاجز تفتيش في مدينة إدلب في مطلع عام 2012، وذلك عندما أخبره الضابط بأنهم سيستجوبونه لمدة لا تتجاوز خمس دقائق، فاحتجز في سجن صيدنايا السيء الصيت الذي يبعد مسافة 30 كلم عن شمالي العاصمة دمشق، وعن ذلك يقول: "عذبوني بأبشع الطرق وأكثرها وحشية وقسوة".

 

Mohammad Abdulsalam

المعتقل السابق محمد عبد السلام

 

خلال مرحلة من المراحل، اعتقد الجلاوزة بأنه قد مات بسبب الجراح التي أصابته، فنقلوه إلى غرفة الملح، التي تحفظ فيها جثث القتلى، وذلك منعاً لانتشار الروائح الكريهة من الجثث المتفسخة، وعندما استيقظ نظر يمنة ويسرة، وأخذ يتلمس الجثث من حوله.

وعندما اكتشف ضباط الأمن في سجن صيدنايا بأن محمداً مايزال على قيد الحياة، أعادوه إلى الزنزانة.

حصلت أسرة محمد على شهادة وفاة له في عام 2014، جاء فيها بأنه توفي بسبب أزمة قلبية، إلا أن والده لم يصدق ذلك، فواصل بحثه عنه، ومن خلال عدد من الوسطاء، وصل إلى أسرة مقربة من الأسد وعقد اتفاقاً من خلالها.

يخبرنا محمد بأن أباه جمع مبلغاً يزيد على 40 ألف دولار لينقذه من السجن، ولهذا باع الأرض التي تملكها الأسرة، ولكن محمداً لم يطلق سراحه قبل عام 2017، أي أن الدقائق الخمس امتدت لخمس سنوات، وهو اليوم يقيم في إسطنبول برفقة أسرته، والمؤسف في القصة هو أن والده قتل في غارة جوية قبل خروج ابنه من السجن لرؤيته.

سجن صيدنايا

تبنت الجمعية العمومية لدى الأمم المتحدة منذ فترة قريبة قراراً يقضي بإنشاء مؤسسة مستقلة تعنى بالمفقودين في سوريا وذلك لمعرفة مصيرهم وما حل بهم.

وفي هذه الأثناء، انبرت منظمات عديدة للتعاون مع أهالي المخفيين قسرياً، مثل رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا، والتي شارك في تأسيسها رياض أولر وهو شاب قصير ونحيل ذو لحية وابتسامة لا تفارق شفتيه، وقد أمضى سنين طويلة في ذلك السجن البغيض على الرغم من أنه تركي.

 

Riyad Avlar in his office

رياض أولر أحد مؤسسي رابطة معتقلي سجن صيدنايا

 

اعتقل رياض في عام 1996 عندما كان يدرس في سوريا وعمره 19 عاماً، أما جرمه فهو انتقاد حكومة الأسد في رسالة وجهها لأحد أصدقائه، وكغيره الكثير، اختفى رياض في ذلك السجن، ولم يصل أي خبر عنه لأسرته طوال 15 عاماً.

أطلق سراح رياض قبل ست سنوات، بعد 21 سنة أمضاها في السجن، فأسس هو وأحد زملائه هذه الرابطة لمساعدة أهالي المعتقلين في صيدنايا.

بدأ رياض ورفيقه بإجراء مقابلات مع المعتقلين السابقين، وعن تلك العملية يقول: "سألناهم: من كان معكم؟" وطلبا من السجناء السابقين عدم تكرار ما سمعوه من غيرهم، بل فقط ما رأوه بأم أعينهم في السجن.

بعد ذلك جمع رياض وصديقه المعلومات ضمن قاعدة بيانات وتحققوا من مراجعها وذلك عبر العودة لقوائم المفقودين التي وضعوها بمساعدة أقارب الضحايا، ويعلق رياض على ذلك بقوله: "بدأنا نقارن الأسماء... ثم صرنا نقدم معلومات للأهالي عن أبنائهم وما حل بهم".

 

Aerial spy shot of Seydnaya prison, taken by US plane

سجن صيدنايا

 

بيد أن أشد ما يقض مضجع رياض هو المبالغ التي دفعها الأهالي الذين التقى بهم في محاولة منهم للحصول على أية معلومة، ويخبرنا بأنه يعرف بأن البعض منهم اضطر لبيع بيته لتأمين تلك المبالغ.

أجرت رابطة معتقلي صيدنايا دراسة مفصلة حول المبالغ التي دفعها الأهالي بالدولار الأميركي، إذ تم حساب متوسط المبالغ وضربه بمئة ألف أي العدد الذي قدرته الأمم المتحدة للمفقودين في سوريا، فتم التوصل إلى أن المبالغ التي دفعت وصلت إلى 900 مليون دولار خلال الفترة ما بين 2011 و2020.

أقام رياض وفريقه ورشات عمل لمساعدة الأهالي على معرفة خدع الوسطاء، وكشف عن وثيقة قدمت للأهالي وأخذ يشرح الكذب الواضح فيها وهو يقول: "إنها تشتمل على شعار، على الرغم من عدم وجود شعار لفرع المخابرات بسوريا"، وهنالك أشكال أخرى للخداع من السهل على المرء اكتشافها.

ثم جعلنا رياض نتواصل مع قدري أحمد بدلة الذي يقيم في إدلب حالياً، ويحاول العثور على شقيقه المفقود منذ أن اعتقل في عام 2013.

 

Kadri Ahmad Badle on a video call

قدري بدلة

 

يخبرنا قدري بأن شخصاً نشر على فيس بوك قبل أسابيع قليلة خبر خروجه من صيدنايا، ورغبته بالمساعدة في التعرف على المعتقلين هناك، وقال: "تواصلنا من ذلك الشخص الذي قدم لنا معلومات لا يعرفها أحد عن أخي، كما أخذ يصف لنا الوشم الموجود على جسمه".

دفع هذا السجين السابق قدري للتواصل مع محام وعده بتأمين عملية إطلاق سراح شقيقه مقابل الحصول على مبلغ قدره 1100 دولار أميركي.

فما كان من الأهل إلا أن دفعوا دفعة على الحساب وقدرها 700 دولار، وبعدها اختفى المحامي والسجين السابق وأغلق كل منهما هاتفه.

بعد مرور عشرة أيام على ذلك، حصلت الأسرة على شهادة وفاة رسمية تفيد بأن شقيق قدري توفي في صيدنايا منذ عام 2014.

الوسطاء

يخبرنا رياض بأن أغلب الوسطاء الذين يعرضون المساعدة يتعاملون مع جهات أمنية ومخابراتية أو أنهم منهم بالأصل، وهذا ما أكده لنا محام سوري فر إلى لبنان منذ فترة قريبة، فلقد أمضى هذا المحامي الذي فضل عدم الكشف عن اسمه عشر سنوات وهو يتعامل مع قضايا محكمة الإرهاب، تلك المحكمة التي تفصل في قضايا معتقلين مدنيين اعتقلتهم قوات الأمن السوري بشكل عشوائي، وقد أنشئت تلك المحكمة بقرار رئاسي في عام 2012، وقوات الأمن هي من يعين القائمين عليها، وعن ذلك يحدثنا المحامي فيقول: "يحق للمحكمة أن تحاكم شخصاً بتهمة الإعجاب بشيء على وسائل التواصل الاجتماعي".

يحول أغلب المدعى عليهم في تلك المحكمة إلى سجن صيدنايا، هذا إن لم يكونوا محتجزين هناك بالأصل.

يخبرنا المحامي أيضاً بأن المحكمة صار اسمها: (محكمة الملايين) وذلك بسبب الأموال الطائلة المتداولة فيها، ويضيف: "إن الفساد والرشوة متجذران في العمود الفقري للنظام السوري، ولهذا يمكن رشوة أي ركن من أركان هذا النظام".

ويرى المحامي بأن تلك الأموال يتقاسمها أفراد ينتمون لمختلف السلطات في سوريا، ويقول: "في بعض الأحيان يظهر ضباط من رتبة أعلى ويطالبون بحصة من المبلغ".

أمضى هذا المحامي العقد الماضي وهو يساعد أهالي المفقودين والمختفين قسرياً، ويخبرنا بأنه اقتفى أثر كثيرين وتمكن من إطلاق سراحهم من السجن، ولكن ثمة فئة أخرى قدم لها المساعدة، ومن بينها سناء التي لم يتمكن أحد من الوصول إلى أي أثر لأقاربها، إذ في صبيحة يوم صيفي حار في عام 2012، دهم أكثر من 20 عنصراً أمنياً بيتها في دمشق وساقوا معهم ابنها وزوجها وشقيقها، فتواصلت سناء مع كثيرين عرضوا عليها الوصول إلى معلومات عن أقاربها مقابل المال، وفي إحدى المرات دفع أهلها 20 ألف دولار لكنهم لم يتوصلوا لشيء.

 

Sana lived in Damascus but now lives in Istanbul

سناء التي غيب أقاربها في سجون الأسد

 

وبمساعدة من ذلك المحامي، تمكنت سناء من البحث في سجلات الوفاة الشهرية لدى الشرطة العسكرية، فاكتشفت وجود أسماء أقاربها في تلك القوائم.

وخلال تلك الفترة، كان كل ما لديها هو صور أقاربها، إذ كانت تعد القهوة كل صباح وتجلس إلى طاولتها بانتظار أن يقرع أحدهم الباب عائداً إليها، ولهذا تقول: "أعيش مع ذكرياتي هنا، فصورهم أمامي أتحدث إليها وأقول لها عند الصباح: صباح الخير، حتى لو اعتبرني الآخرون مجنونة، إذ لعل ذلك قد يمنحني المزيد من الأمل على المتابعة ومواصلة المشوار".

يذكر أن شبكة بي بي سي حاولت التواصل مع حكومة الأسد للتعليق على ما ورد في هذا التقرير، إلا أن أحداً لم يتجشم عناء الرد.

المصدر: BBC