العالم في زجاجات

2020.12.01 | 23:10 دمشق

photo_2020-12-01_18-10-00.jpg
+A
حجم الخط
-A

يدرك الإنسان وجوده بالتفاعل، ويزداد تقديره لذاته كلما ازداد تواصله الإيجابي مع المحيط، ربما يستمد من ذلك دليلاً على  تأثيره وتأثره.

وعلى هذا يعتاد كل جيل على مقومات أساسية، تصبح علامات فارقة تميزه عمن سبقه من أجيال أو عمن سيخلفه.

حقبة جديدة أجبر العالم على دخولها في هذا العام، إذا بدا خلالها كأنه طوى صفحة كاملة وأعلن بداية عصر جديد مختلف بمقاييسه وتفاصيله عما سبقه.

لقد كانت الفترة التي بدأ فيها العالم يركب موجته الجديدة ويدخل حقبة التكنولوجيا صعبة للغاية، وتحمل في طياتها احتمالات غير محدودة وعصية على الوصف، لدرجة كبيرة جعلت كثيرين يعيشون تخوفاً وقلقاً  مثل الذي نعيشه في هذه الأيام .

والحقيقة أنه قد لا يكون كل تغير أو تغيير إيجابي بالضرورة، لكن أي محاولة لتحسين الواقع لابد أن تبدأ بتغيير ما، وهذا حدثٌ قد يكون مفتوحاً على الاحتمالات كلها.

المشكلة أننا نجتاز هذه المرحلة مكبلين بخوف حول احتمال بقائنا من عدمه، ونخوض صراع الوجود المفترض بيننا وبين أنفسنا، متناسين ما قد يفوتنا من فرص.

الخوف شعور مشروع وهو أمرٌ طبيعي في فترات التغيرات الجذرية، التي تجعلنا في توتر وارتباك من السقوط في الفراغ جراء انقلاب الصفحة وتغير الشروط.

وذلك على الرغم من أن التغيير قد يأتي بشروط تمهد لدورة زمنية جديدة، فاتحاً طرقات مختلفة لجيل جديد مختلف عنا في طريقة التفكير أو التعاطي مع الأحداث وحتى تحليلها ومعالجتها. 

لقد شهد العالم تغييرات بدلت فيه كثيرا وانقلب من حال إلى حال، وقد أثبتت التجربة مع مرور الزمن أنه ليس من الخطأ أن يتغير العالم، بل من الخطأ عدم تغيره وركوده، فلطالما كان التغير علامة للحياة ومقياساً على حيوية المجتمعات.

التغيير الذي يصيبنا هذه الأيام مختلف عما سبقه لأسباب كثيرة، أكثرها وضوحاً على الأقل انعدام الحيوية وارتباطه بغياب النشاط البشري الإيجابي على وجه الكوكب، وانكفاء الإنسان على نفسه معتقداً أن في ذلك حماية له من خطر محتمل يهدد بقاءه.

لقد عصفت بالكوكب أوبئة وجائحات مختلفة هددت وجود الجنس البشري وقرعت نواقيس الخطر، وفي هذا السياق فإن ما يجعل الإنسان منا يستشعر الخطر ليس التغيير المحتمل، وإنما ما قد يختبئ بين سطوره.

لقد جاءت ضرورة فرض إجراءات الحظر في وقت كان يشتعل فيه العالم من شرقه إلى غربه ومن شماله حتى جنوبه للمطالبة بالتغيير والتغير لصالح البيئة والإنسان والمواطن، في فترة انطلقت فيها مظاهرات سياسية مروراً بمظاهرات وتحركات للمطالبة بحماية البيئة وانتهاء بمطالبات بحماية الحقوق والمساواة والعدالة.

وأدت الإجراءات المفروضة إلى تغير شكل العالم بطريقة مفاجئة فانتقل من حالة الحراك إلى حالة السكون المطبق والمطلق، وانصب اهتمام الكائن البشري في مختلف انتماءاته وتوجهاته على حماية وجوده وضمان بقائه معتبراً المكتسبات الأخرى ترفاً ليس من الضروري استعجاله.

إن ما يقض مضجع المشككين اليوم هو استخدام التدابير الصحية الاحترازية المفترضة لأغراض مختلفة عما صممت من أجله،  بل لنكون ممثلين ودمى في مسرحية هزلية ذات أبعاد سياسية.

عالم أصبحنا مقرونين فيه بذكاء صناعي لم نتعلم بعد التعامل معه، ولا نستطيع فك شيفراته في أحيان كثيرة لكننا عاجزون عن الاتقطاع والتخلي عنه بكل تأكيد.

ربما يعتقد البعض أن هذه الافتراضات سلسلة مستمرة لنظرية المؤامرة التي استُهلكت حتى فاض الملل من جوانبها، وهذا صحيح، لكن أليس من الممكن أن يكون هذا الاحتمال حقيقياً، وما هي نسبة تحققه؟؟؟ وماذا ستكون مكتسباتنا وخسائرنا بعد طي هذه الصفحة واكتشاف أننا ولجنا عالماً مختلفا يصعب علينا التعامل مع أدواته أو تحقيق مطالبنا من خلاله.

لقد كشفت التجربة قابليتنا للتدجين وقدرة المتنفذين على ذلك كلما دق إنذار الخطر، أو أوهمنا محتكرو القرار أن ذلك أمر ضروري لسلامة وصحة النوع البشري.

لكن الأكثر رعباً أنهم يستطيعون تحويلنا إلى كائنات افتراضية تتثبت وجودها من عدمه عن طريق الشبكة العنكبوتية بإشارة خضراء وأخرى رمادية، بعد أن دفعنا أثماناً باهظة في سبيل حرية التنقل التي ضمنتها الدساتير ولو بشكل نظري.

لقد بدأ شكل العالم يتغير بشكل تدريجي منذ بداية الألفية الثالثة تقريباً، لكن التغيير لم يكن يأخذ شكل الانحدار الشديد أو السقوط الحر مثلما حصل في السنوات القليلة الماضية، فقد فقدنا في رحلة السقوط تلك كثير من أملنا بل وإيماننا في بعض الأحيان، وأصبح الواقع مختلفاً عما عرفناه أو عما تمنيناه على أقل تقدير. 

في حين كان الألم في مواضع أخرى أكبر من القدرة على الاحتمال فاستسلمنا وتركنا دفة السفينة لتسير وفق الأمواج.

لم يعد العالم الجديد بحاجة إلى الذهاب إلى السوق من أجل تأمين الحاجات، وأصبحنا بحاجة إلى تدريب مكثف للعمل والدراسة عن بعد.

عالم أصبحنا مقرونين فيه بذكاء صناعي لم نتعلم بعد التعامل معه، ولا نستطيع فك شيفراته في أحيان كثيرة لكننا عاجزون عن الانقطاع والتخلي عنه بكل تأكيد. 

ما يزيد قلقنا حول وجودنا في شكل العالم الجديد من عدمه على الأكثر، هو تضاؤل فرص العمل واكتشاف أن الأغلب منا قد أصبح أمياً على الرغم من تخرجه من الجامعات، أو أنه خرج إلى عالم التقاعد مبكراً رغم أنه مازال في العقد الخامس وهو سن العمل وفق مفاهيم العمل التي عهدناها.

لقد كان لذلك التغيير في المفاهيم فعل الصدمة لكن العالم يستمر والحياة لا تتوقف، ونحن مازلنا نتلمس طرقاً نحاول أن نعكس فيها وجودنا، العالم لا يبدو بخير ومازال الخطر يهدد الكوكب، وليس لذلك علاقة بمسألة التكنولوجيا أو الأوبئة المهددة لوجود الكائن البشري، فالعالم لم يكن بخير منذ زمن بعيد، منذ بدأ يسقط في هوة أعمت عينيه عن زيادة أعداد الفقراء في العالم أو ازدياد معدلات الجريمة ومنذ أصبح للقوي السلطة في أن يستغل الكائنات الأكثر ضعفاً، أو منذ توسعت رقعة الحروب وبات أكثر من ربع سكان الكرة الأرضية من ساكني الخيام والمنفيين من أوطانهم.