العالم على بوابة المتغيرات الكبرى

2023.07.30 | 05:16 دمشق

آخر تحديث: 30.07.2023 | 05:16 دمشق

العالم على بوابة المتغيرات الكبرى
+A
حجم الخط
-A

هل ستقبل أوروبا والناتو من خلفها تقسيم أوكرانيا بين شرق وغرب؟ وهل سترضى روسيا بهذا؟ أم ستحاول الحصول على كامل أوكرانيا مهما كلفها ذلك من نتائج؟

في الشرق الأوسط، وانطلاقًا من سوريا، هل سترضى روسيا بحصتها في الساحل ووسط سوريا فقط؟ وهل ستتمكن أميركا، بالتعاون مع قسد وجيش سوريا الحرة من إقفال معبر البوكمال في وجه إيران وفتح طريق البادية السورية الواصل بين شرق الفرات والجنوب السوري كما يشاع من تسريبات؟ ماذا عن تركيا؟ ماذا عن إسرائيل وإيران؟ وماذا عن المبادرة العربية أيضًا؟

أسئلة شائكة ومعقدة، ويبدو كل واحد منها يحتاج لدراسات استراتيجية ومعطيات استخبارية وعسكرية، متغيراتها أكثر من ثوابتها في خضم عالم لم يستقر بعد على وجه معين أو أوجه متعددة للهيمنة والاستقرار! لكن، وخروجًا من هذا الصندوق المعتم المليء بالسواد والمظالم ولغة الحرب والقتل، فنحن السوريين قد أتخمنا موتًا وتهجيرًا وجوعًا، هل يمكن أن نرى لوحة العالم بتوجهاته المحتملة، ما دامت لغة الأرض والوقائع تحمل متغيرات عديدة، تمثل كل منها إجابات سياسية مختلفة؟

في نهاية الحرب العالمية الثانية انقسم العالم بين معسكرين شرقي- شيوعي- اشتراكي، وغربي- ديموقراطي- رأسمالي، ونقطة علام ذلك الانقسام كانت مدينة برلين الألمانية أوروبيًا. فيما كان تقسيم العالم كمواقع نفوذ متعددة بعد الحرب العالمية الأولى، ونقطة علامها كانت تقاسم تركة الإمبراطورية العثمانية بين يدي دول الحلفاء الأوروبيين، فيما كانت ساحة الوطن العربي هي شكل تقاسمه ونموذجه المتفق عليه. من تقاسم الوطن العربي وصعود أوروبا الواسع، إلى احتدام الصراع العالمي في الحرب العالمية الثانية، والذي استدعى تحالفات أوسع أدت إلى تركيز الصراع العالمي في قلب أوروبا، ومدينة برلين كانت نقطة النهاية والبداية بآن؛ منذ ذلك التاريخ ولوحة العالم وإن بدت مستقرة نسبيًا، لكنها كانت قابلة للتغيير بأكثر من طريقة. أوضحها كان التمدد السياسي والاقتصادي للتحالفات الواسعة الاشتراكية مقابل الرأسمالية، مع ما تخللها من عمليات عسكرية محدودة ومدروسة أميركيًا خاصة بعد انهيار المعسكر الاشتراكي وتربعها على قمة العالم.

تبدو سوريا نقطة العلام الكبرى في المشهد! هذا مع بروز عوامل التآكل الداخلي المترافق مع تمدد القوى الصاعدة عالميًا وفي مقدمتها روسيا وإيران، مقابل الوجود الأميركي والثقل التركي والأهداف الإسرائيلية في معادلات المنطقة

اليوم، بدأت المسألة مرة أخرى من رقعة بلاد العرب الواسعة، فمنذ العام 2011، والعالم يتناوب على طرق التحكم والهيمنة في متغيراته السياسية والجغرافية، بعضها نجح في الاستقرار النسبي أو الأولي كمصر، وبعضها يحاول كتونس، ومنها من خرج من دوائرها كالمغرب وعمان وبعض دول الخليج. بينما لم تزل دول متعددة منها لليوم مراكز صراع على النفوذ متعدد الأقطاب لم يحسم موقع فيها بعد كاليمن وليبيا والعراق وسوريا، وتبدو سوريا نقطة العلام الكبرى في المشهد! هذا مع بروز عوامل التآكل الداخلي المترافق مع تمدد القوى الصاعدة عالميًا وفي مقدمتها روسيا وإيران، مقابل الوجود الأميركي والثقل التركي والأهداف الإسرائيلية في معادلات المنطقة. ولم تتوقف المسألة هنا، بل نمت وكبرت كرة الثلج وتدحرجت لقلب أوروبا التي باتت المنطقة الأكثر احتدامًا ووضوحًا في شكل الصراع العالمي، ومحاور صراعه الكبرى يتقاسمها حلفي أوراسيا الروسي والناتو الأميركي.

يبدو من الصعوبة بمكان اليوم قراءة المشهد العالمي بذات المقاربات التي نحاول إلقاء الضوء عليها إبان الحربين العالميتين، لكن المثير للدهشة والتساؤل هو متغيراتها الحالية:

  • في كل مرة كانت أحمال الحرب العالمية تضع أوزارها، حتى تبدأ معالم عالم جديد تترسم، وتستمر لعقود قبل أن تتغير لمعالم أخرى لم تقتصر على تموضع سياسي وحسب، بلا طالت عمق المجتمعات فكريًا وأدبيًا وفنيًا، تقنيًا وصناعيًا، اقتصاديًا وترسيخ قوانين دولية سياسية كان من الصعب تجاوزها بلا حرب أخرى.
  • دوليًا، بقي ميثاق الأمم المتحدة وخلاصته في مجلس أمنها، هو الآلية المرجعية الحاكمة لشكل النفوذ العالمي، الميثاق الذي وضعت قوانينه القوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، وأتى ليحل محل ميثاق عصبة الأمم السابق.
  • خط إنهاء الصراع العالمي في الحربين السابقتين كان عنوانه الدول المنتصرة، فيما هي ولليوم لا توحي بمنتصر أو منتصرين في أي ساحة من ساحات احتدام الصراع العالمي.
  • تشير الوقائع العالمية إلى أن الرقعة العربية كانت ساحة الحرب العالمية الأولى، فيما كانت أوروبا ساحة الثانية بعد عقود. فيما هي اليوم ابتدأت من الرقعة العربية وانتقلت لقلب أوروبا بذات الوقت وبزمن سريع دون حسم لنتائج أي منها.

موازين القوى العالمية اليوم لن تتمكن من حسم الصراع العالمي في موقع منفرد، بقدر حصره في مواقع عالمية متعددة بذات الوقت، ومؤشرها الأوضح في سوريا وأوكرانيا

تتجاوز هذه المؤشرات الفعل السياسي العام إلى الفعل الجيوسياسي (الجيوبوليتكي) العالمي، ونقطة تحوله اليوم هو الجمع بين الحرب الكلاسيكية محدودة الرقعة وذات الأهداف السياسية البعيدة، هذا مع تصفير أي احتمال لمواجهة عالمية ثالثة مباشرة بين الدول الكبرى كما حدث في الحربين السابقتين. لكن الأهداف السياسية البعيدة لمجريات الواقع العالمي الحالي تجعل هذا الاحتمال قابل للتحرك عند أي خسارة في موقع منها، فخسارة روسيا في أوكرانيا قد تعني حربًا نووية كما لوح بها القادة الروس مرارًا، وخسارة الأميركيان لنفوذهم في الشرق الأوسط تعني حرب إقليمية واسعة ومواجهة مباشرة مع إيران، والأخيرة تلوح بالعمل العسكري المباشر في دول الخليج، ودول الخليج بذاتها تحاول تجنبها بالمبادرة العربية وتعزيز الدور الصيني المعتدل فيها.

تخفيض احتمالات المواجهة المباشرة بين الدول الكبرى يعني:

  • عدم حسم نتائج مواقع الصراع العالمي بشكل مباشر اليوم، ومنها سوريا وأوكرانيا بشكل رئيسي.
  • تخميد اشتداد الاحتكاكات المباشرة العالمية سواء في أوكرانيا أو سوريا، مترافق مع غض النظر المتبادل بين كل من روسيا وأميركيا عن بعض العمليات الجزئية التي يمكن أن يقوم بها كل طرف في مواقع نفوذه المفترضة.
  • في مقابل هذا، تصبح إدارة لعبة المتغيرات العالمية واردة ومؤهلة للترجيح بأيدي أصحاب الأرض، ما يؤهل لإمكانية فتح مواقع حرب جزئية في الجزيرة السورية (البوكمال ودير الزور)، هذا مع الحفاظ على عدم تمددها لدول الخليج العربي. مقابل مواقع حرب جزئية في شمال أوكرانيا مؤشرها التحرك البيلاروسي.
  • موازين القوى العالمية اليوم لن تتمكن من حسم الصراع العالمي في موقع منفرد، بقدر حصره في مواقع عالمية متعددة بذات الوقت، ومؤشرها الأوضح في سوريا وأوكرانيا، ويبدو شمال وشرق كل منها هو الأكثر ترجيحا في المعادلات المقبلة.

منذ العام 2013، حين لم يحسم العالم نموذج ثورات الربيع العربي لصالح شعوبها، والعالم يقع على صفيح ساخن من المتغيرات، كان أبرز عناوينها الاتفاقات الأمنية السرية بين الدول الكبرى، كما في اتفاقي الكيماوي السوري وقتها والنووي الإيراني بعدها بعام. العالم اليوم يدفع ثمن السماح للمصالح الجزئية هذه ووهم إمكانية ترتيب العالم بموجبها دون الأخذ بحقوق وقيم الشعوب. وها هي كل مؤشرات الحرب النووية قائمة، وكل مؤشرات الأزمات العالمية الغذائية أوضح، وكل مؤشرات الهلاك والاستنزاف العالمي للحضارة الإنسانية في الحقوق والحريات والاستقرار والأمان وسيادة الأمم على أرضها أكثر تباينًا! فهل يكتفي العالم ودوله الكبرى عند هذه الحدود، وقد أرادوا عن سبق إصرار التضحية بكل ثوابت الاستقرار العالمي أمام توازع محاور النفوذ والهيمنة؟ أم ثمة متغيرات قادمة تجعل العالم مفروضًا عليه الدخول في المتغيرات الكبرى، خاصة وأن نزعتي الاستحواذ والهيمنة المطلقة هي الهدف الرئيسي والاستراتيجي لمحاور صراعه الرئيسية دوليًا، وما دونها إقليميًا؟