الطيب تيزيني متنبئاً بالخراب السوري في كتابه "من ثلاثية الفساد.."

2021.06.11 | 10:49 دمشق

66142_1.jpg
+A
حجم الخط
-A

منذ مقدمة كتابه الشهير "من ثلاثية الفساد إلى قضايا المجتمع المدني" الطبعة الثانية 2001 ينشغل المفكر والفيلسوف السوري الطيب تيزيني (10 حزيران 1943 - 18 أيار 2019) بهاجس قراءة العالم العربي وفق منهج ماركسي وبتحليل اقتصادي اجتماعي يظهر لنا خطوة إثر أخرى كيف أن "قوى العولمة الكونية" تفكك العالم العربي كما بلاد أخرى في مسعى منها لإعادة بناء العالم على أساس "السوق الكونية السلعية".
وللحيلولة دون نجاح هذا المسعى الشرير يبذل الطيب -شأنه شأن كل فيلسوف وطني إنساني- كل جهد فكري ممكن في سبيل فضح هذه الآلية التدميرية منطلقا من تحليل الوضع السوري ويدق الأجراس علّ السلطة والنخبة الحاكمة كما النخب المحكومة والمعارضة تسمع وتعي..
ولأجل ذلك يدعو تيزيني إلى ضرورة إعادة بناء الفكر على صعيد البنية والاستراتيجية والمنهجية والطرائق ولا يتم ذلك إلا بتوفر الشجاعة لقراءة نقدية في العمق وفي السطح للواقع العربي، فالعالم العربي كله مستهدف بكل أقطاره ومذاهبه وطوائفه وطبقاته وشعوبه وجيوشه وأحزابه... الخ
ويتوجه الطيب "إلى من هم ضمير الوطن ورهانه" قاصدا المثقفين ليقول إن هؤلاء حين يراهنون على فك تحالف الأنظمة مع التحالف الأميركي الصهيوني سيجدون أنفسهم إلى جانب الشعب المُفقر، وهؤلاء "إن حققوا اندماجا عميقا بينهم وامتلكوا الوعي التاريخي" فإنهم يحققون رهان الأمة، لكن ذلك لا يتم إلا عبر ثالوث الديمقراطية والعقلانية والتنوير .
وفي قراءته المستقبل السوري (كان ذلك أثناء "ربيع دمشق" سنتي 2000 و 2001 أي قبل عشر سنوات من تفجر الثورة السورية وما أعقبها من حرب ...) يجتاز الطيب الخطوط الحمراء بلباس التقية مغلفا كلماته بأكثر ما يمكن من التعميم فيدور على الأفكار ليقولها بهدوء وبشرح فضفاض كيلا تفهم من الرقيب السوري على الرأي والكلمات وكأنها موجهة له - وهي كذلك بالطبع- فالكتاب جمع ونشر في دمشق بعدما نشرت محتوياته في سلسلة مقالات في صحيفة الثورة السورية الحكومية .
يُعمل مفكرنا مبضعه في جسد المافيا الحاكمة مبتدئا من التسعينيات، مشيرا إلى هجوم ما يمكن تسميته بليبرالية العائلة الحاكمة مع العائلات المساندة المشاركة لها ومعها، مبينا أن عملية إفقار الطبقات الوسطى والدنيا وتهميش المجتمع تترافق عادة مع عملية الترويض الإعلامي النفسي ومع زيادة المديونية ونهب الثروات الداخلية، متهما هذه الفئة الحاكمة أنها بسبب جشعها تعلن أن سوريا "برسم التسليم".
ولا تكتفي هذه العائلة الحاكمة بذلك بل تتجاوزه إلى فعل أثير لها هو انتهاك الديمقراطية سواء كتعددية سياسية وثقافية أو كتداول سلمي للسلطة، وأخيرا هي تحاصر العلمانية وتسطحها وهي أمور وممارسات "ضعضعت المجتمع العربي" وكلمة العربي تعني هنا المجتمع السوري.

مهمات نخبة النهّيبة الحاكمة

يشرح الدكتور تيزيني أن هذه التركيبة السلطوية الحاكمة تعمل في ثلاثة اتجاهات كبرى:
الاتجاه الأول: تهميش القوى الاجتماعية وإبعادها عن مفاصل القرار السياسي والاقتصادي وتحول هذه المفاصل إلى أيدي نخب أحكمت قبضتها عليها، مما يترتب عليه إذلال للقوى الاجتماعية بانتزاع كرامتها
وخبزها منها.
الاتجاه الثاني: تذويب الدولة الوطنية التي تأسست بعد الاستقلال بتشظية مؤسساتها وإنهاكها وإحالتها إلى جيوب جزئية متجاورة يعمل كل منها لصالح واحدة من النخب المذكورة، وإسقاط مفاهيم أساسية تنتمي للدولة الوطنية مثل مفاهيم "دولة النظام والقانون"، "حق المواطنة ومساواة الجميع"، "مبدأ فصل السلطات"، "الإنسان المناسب في المكان المناسب".

الاتجاه الثالث: استطالة الأجهزة- يقصد أجهزة الأمن والمخابرات- على حساب استقلال مؤسسات الدولة وحرية التعبير عن قضايا الوطن داخلا وخارجا وعلى حساب حقوق الإنسان "عبر محاولة تلك الأجهزة إفساد المجتمع برمته وإغراقه في لجة الاضطراب من خلال اقتراف كل ما يتعارض مع القيم الأخلاقية والوطنية والقومية النبيلة حيث كانت تعمد تلك الأجهزة إلى "حماية الظالم والدفاع عن المظلوم وحماية اللص ضد الشريف ودعم الدعارة ضد الشرف وحماية من يعمل على تهديم الوطن بثرواته وبيئته ومؤسساته وشعبه ضد من يعمل على حمايته ونمائه".

ما سبق أدى إلى -يتابع تيزيني قائلا- "آليات نفسية واجتماعية تعيد إنتاج نفسها تلقائياً في حياة الشعب محققة للسلطة والنخبة وظيفتين أساسيتين:
الأولى هي تكوين الأفراد والجماعات على نحو ما تقتضيه مصالح ورغبات من يقف وراء المرجعية السياسية العربية المحددة "وهو ما يشير إلى اقتناع فيلسوفنا أن ما جرى في سوريا حتى ذلك الوقت كان وفقا لبرنامج دولي عولمي يشمل بلدانا عديدة في العالم الثالث...
والوظيفة الثانية هي إنتاج رقيب ذاتي في الوجدان الذاتي لكل فرد كما في الوجدان المجتمعي" وهو ما يعني تحولا في مستوى الخطاب المعلن (سياسي وثقافي واقتصادي) إلى الانتهازية التي تخفي وراءه ما هو نقيض ومضاد، وعن هذه الانتهازية تتولد احتمالات متعددة لشخصيات متعددة تتحرك في إطار المداهنة أو الخوف أو النفاق أو الخنوع.

الشعب "التقي" وفرع المخابرات القائد للوطن

وفي فقرة على غاية من الذكاء، ربما تكون زبدة الكتاب وملخص الوضع السوري المتأزم لثلاثة عقود، يكشف الطيب تيزيني الآلية النفسية الاجتماعية التي تحكم وتتحكم في الشعب السوري، فحين يتعاظم القلق والاضطراب الاجتماعي تحضر مصطلحات تضبط الخطاب المهيمن في قطاع مجتمعي أو آخر، ويتعاظم هذا الحضور المهيمن للمصطلح في القطاع الأمني باعتباره القطاع الأقوى والقائد فعليا للدولة والمجتمع، فيصبح وكأنه القانون الأساسي أو الدستور بعد ابتلاع القانون الأساسي الحقيقي، وإذا ما تعمم هذا الحال على قطاعات المجتمع ومؤسساته كلها فإن هذه الأخيرة تواجه عندئذ اتجاهاً لاختزالها إلى مؤسسة أو جهاز أو فرد تستمد منها أو منه توجيهاتها سلبا أو إيجابا، وهنا يبرز مصطلحا الخط الأحمر والخط الأخضر ومرجعيتهما- الأمن بالطبع- كمؤسسة أو كشخص، وفي هذه الحال ستنشأ التقية بمعنى التستر أو الحذر المفرط لدرجة الخداع والكذب، وإظهار عكس ما يعتقد المرء أو يُبطن.

جدلية التخليف -التفكيك- الابتلاع

وعودة إلى المدخل الاقتصادي كمؤسس لفهم الحالة السورية عامة كما العربية وفي محاولة منه لاستشراف المستقبل يقول الدكتور تيزيني إن تواطؤ النخبة الحاكمة جرى بشكل علني مع مؤسسات اقتصادية عالمية، بقصد تدمير الاقتصاد الداخلي أو لتوجيهه باتجاه مصالح نخب يتعاظم ثراؤها بين ليلة وضحاها، فالخصخصة التي تقودها النخب الحاكمة في الجزائر ومصر مثلا والتي تطمح إليها نخب أخرى كما في سوريا مثلا تؤدي يدا بيد - مع الاستجابة لشروط صندوق النقد الدولي وغيره- إلى تدمير البلد وخلق جيوش من العاطلين عن العمل الذين يمثلون احتياطاً بشرياً في أيدي التنظيمات الإرهابية من كل نمط أيديولوجي أو سياسي... الأمر الذي يدفع بفيلسوفنا لوضع جدلية (التخليف -التفكيك- الابتلاع) التي تفسّر كل ما يجري منذ نصف قرن -على الأقل بالنسبة لسوريا-.

ويوضح هذه الجدلية قائلا إن الوصول إلى حالة التفكيك الهوياتي والابتلاع العولمي ثم إعادة تحويل كل شيء إلى سلع وتحويل السلعة إلى الهوية الوحيدة للبشر ما كان ليتم لولا ثلاثة أحداث هي على التوالي الثورة المعلوماتية وانهيار الاتحاد السوفيتي والغزو الأميركي للعراق.
ولا يتوقف جحيم العولمة هنا بل يمضي وصولا إلى "إنتاج" إنسان عربي من نمط كائن استهلاكي بيولوجي هو ضرورة وركيزة "السوق الكونية السلعية".
وختاما يحتاج الكتاب الذي بين أيدينا إلى أكثر من قراءة كونه يحتوي على قضايا متعددة مثيرة نوقشت لأول مرة في تاريخ الكتابة السياسية في "سوريا الأسد" بجرأة وبشيء من التكثيف لا يخلو من التشويق، قضايا كانت إلى حينذاك خطوطا حمراء يخشى الجميع تجاوزها.