الصورة الشعرية سائليني يا شآم

2020.01.28 | 23:02 دمشق

fayrouz-2.jpg
+A
حجم الخط
-A

بين أدغال الأوباش، والمجرمين، والسياسيين الذين يغيرون وضعية البندقية على أكتافهم كل يوم، والإعلاميين الذين لا يعرف أحد من أين جاؤوا وإلى أين يذهبون، والأدباء الذين ألجأهم العمر إلى اجترار إبداعاتهم القديمة، ومشايخ السلطة المزيفين المتكسبين بتأييدهم أفعالَ الإبادة، وأصحاب فتاوى الاستيلاء على ملكيات الآخرين بذرائع ملفقة، يمكننا إيجاد فسحة صغيرة للحديث عن: الشعر.

رويدك، أيها القارئ العزيز، لا داعي لأن تُحْجِمَ عن قراءة هذه المقالة وتقول لكاتبها بلسان حالك: حُلّ عنا يا أخ، فنحن كرهنا عمرنا من شعر المديح، والفخر، والرثاء، والبكاء على الأطلال، وتصوير الحروب على أنها أعمال بطولية يُجَنْدَلُ فيه الأعداءُ وتسيل دماؤهم وتُسْبَى نساؤهم.. فوقتها سيأتيك الجواب: اصبر علي، فالكلام هنا عن "الصورة في الشعر"، الشعر الغنائي تحديداً، وقد تجده حديثاً طيباً.     

أنت لا تحب التنظير، بالطبع، ولا العبارات التي يتقصد كاتبُها إغراقَها بالغموض والمصطلحات العويصة ليوحي لقرائه بأنه فهيم، وتؤثر تناولَ القضايا المختلفة على نحو واضح وعميق، ودون فذلكة. لذا؛ خذ هذا المثال من أغنية "فكروني" التي كتبها الشاعر عبد الوهاب محمد ولحنها الموسيقار محمد عبد الوهاب وغنتها أم كلثوم أواخر سنة 1966: القمرْ مِنْ فَرْحِنا حَ يْنَوَّرْ أكترْ.

لا تقل لي هذا شعر عامي. لأنه، في المحصلة، شعر، والدليل الصورة التي أشرنا إليها. تقول الصورة ما معناه إننا، نحنُ العاشقين من جنس البشر العاقل. فرحنا بلقاء أحدِنا الآخرَ، وإذا بضوء القمر، وهو أشعة فيزيائية تنطلق من جماد هو القمر، يصبح أشد سطوعاً!

نزار قباني، أحد قناديل سوريا المضيئة في العصر الحديث، يقول، على لسان عاشقة تتمثلها السيدة فيروز، إنها إذا سئلت عن اسم حبيبها تخشى على الذين يسألونها ضوعةَ الطيوب حولهم، ولو أنها باحت بحرف واحد من اسمه فسوف يتكدسُ الليلكُ (وهو من جنس النبات) في الدروب.

أنت لا تحب التنظير، بالطبع، ولا العبارات التي يتقصد كاتبُها إغراقَها بالغموض والمصطلحات العويصة ليوحي لقرائه بأنه فهيم، وتؤثر تناولَ القضايا المختلفة على نحو واضح وعميق

يؤدي صباح فخري الأغنية التراثية "قدك المياس" على نحو رائع، ولكن الصورة الواردة في أحد الأبيات، القائلة أنا وحبيبي في جنينة، والورد مخيم علينا، ليست بارعة، لأنها ساكنة، وخالية من الحركة. ولكن تأمل، يا رعاك الله، ما تقوله فيروز في قصيدة "يَمّي ما بعرف" التي كتبها ولحنها الأخوان الرحباني وقُدِّمَتْ ضمن سكتش "سهرة حب": يحكي ويحكي وكنت إسمعْ لُهْ، والحكي كيف كان طايعْ لُهْ. وإذا كنت تلاحظ فإن الدكتورة سعاد الصباح قاربت هذا المعنى في قصيدة جميلة عنوانها "لا تنتقد خجلي" غنتها نجاة الصغيرة -وهي نجاة حسني البابا، الشامية، شقيقة النجمة سعاد حسني- وفيها تقول: من أينَ تأتي بالفصاحة كلها، وأنا يتوه على فمي التعبيرُ.. وهذا ليس موضوعنا على كل حال، فما يهمنا هو الصورة الشعرية المذهلة التي ابتدعها عاصي ومنصور الرحباني وتقول:

صاروا الزنابقْ حَدّنا يَعْلُوا.

والمعروف أن النباتات، وبضمنها نبتةُ الزنبق، تتطور وتعلو ببطء شديد فلا يُرى نموُّها بالعين المجردة، ولكن الزنابق هنا صارت تعلو متأثرة بحرارة الحب في لقاء العاشقين، إلى أن تقول: لو ضَلّْ كان الوردْ غطاني.. أي لو استمر هذا الموقف، مع النمو المتسارع لنبات الزنبق، لكانت الورود غطت العاشقة وطمرتها! 

على الرغم من كون صورة الوُرُود التي تنمو بالتناغم مع احتدام الوضع النفسي للعشاق مبتكرة وجميلة، إلا أن الأخوين الرحباني كانا يقدمانها بأشكال مختلفة، كما في مقدمة أغنية فيروز "بتشوف" التي تبدأ بقولها: وحياة عَيْنَكْ يا وردْ نيسان- زَهِّرْ على شباكُنْ العشقان.. فهل الإزهار فعل إرادي يقوم به الورد تحت الطلب؟ وهل لورد نيسان عينان لتخاطبه بالقول (وحياة عينك)؟ وكيف يكون الشباك (عشقاناً)؟

عند جوزيف حرب نعم، يمكن أن يكون الشباك أو الباب عاشقاً مشتاقاً لمعشوقه، أو حزيناً على فراقه. ارجع إلى قصيدة "البواب" واقرأ فيها: في باب غرقان بريحة الياسمين، في باب عشقان، في باب حزين.

ولجوزيف حرب صورة لا تقل براعة عن صورة الباب، إذ يقول: الشمس بتطلع سودا، وبييبس الموج (هل يمكن أن يصبح موج البحر يابساً؟) لما بفكر إنه ترابك مش إلي.

وأما شاعر البلاغة سعيد عقل فيجعل حضورَ الورد على الشباك كما لو أنه جوابٌ لسؤال أو طلب، إذ يقول: دقيتْ، طَلّْ الوردْ عَ الشبَّاكْ! ويمعن بعدئذ في أنسنة الورد، إذ يساله: وينها؟ فلا يرد عليه، لأنه، أي الورد: تْلَبَّكْ ما عاد يحكي. سعيد عقل هو نفسه الذي قال: سائليني يا شآم، يوم عطرتُ السلام كيف غارَ الوردُ واعتل الخُزام.. وقال إنه راح يسترضي الشذا.

في هذه القصيدة كل الكائنات تحكي وتتألم وتهيم:

ليلة ارتاح لنا الحورُ فلا

غصن إلا شجٍ أو مستهام

وجعت صفصافة من حسنها

وعرى أغصانَها الخضرَ سقام.

كلمات مفتاحية