الصوت والصورة.. نبض سوريا وحبل السرة مع الثورة

2020.07.24 | 10:34 دمشق

tqxzsdzfyrt8zqudnyg3mkar9ohgofyecvsueq1n.jpeg
+A
حجم الخط
-A

يهدر الشعب السوري بنخبه ومثقفيه، ببسطائه ومعارضيه، بمظلوميه ومشتتيه، الفرصة بعد الأخرى. طبعاً لا شيء مقدّس وفق أي معيار غير كرامة الإنسان، حياته وصونها. والشعب السوري أكثر من قاسى وعانى وغُبن، أكثر ما ظُلم وأُظلم، وأكثر من ظلم نفسه وبعضه البعض. وتلك أفعال لا يمكن تبريرها لكن لا بد من وضعها في سياقها الطبيعي، نفسياً واجتماعياً. والمناسبة هي الصراعات التافهة التي تؤدي إلى نتائج كارثية ومدمّرة على صعد مختلفة ومتنوعة في السياسة، والواقع الاجتماعي والنفسي لهذا الشعب الذي لم يعد لديه نصير، فأخذ يصطدم ببعضه البعض.

 شعب سوريا، كما حال كل شعوب هذه المنطقة البائسة، وفي خضم ما عاناه، أكثر ما يحتاج إليه هو رعاية اجتماعية، بعد خسارة مجتمعه، وبيئته. والداخل في ثورة تعرّضت إلى كل هذا الجلد، لا بد له أن يقبع تحت سيف الأذى، إذ تتملك الأذية في نفسه ولو لم تكن موجودة، لأنه الشعب الذي لم يلاقِ نصيراً ولا معيناً في محنته، وجد العالم كلّه متآمراً عليه، فلم يصرخ بغير يا الله ما إلنا غيرك يا الله. لكن بالحدّ الأدنى لا بد للسوريين أن يكونوا لبعضهم البعض لا على بعضهم البعض. لا تزال سورياهم بواقعها الأليم وشتاتها العظيم، طاقة الأمل الوحيدة في هذا الشرق. ولا بد لأن يكون لهذه السوريا صوت، صوت صاغه السوريون في بداية ثورتهم، عندما بدؤوا باكتشاف صوتهم، الذي صدح في كل المناطق والمحافظات صرخة واحدة، لا تفريق جندرياً ولا مناطقياً ولا طائفياً أو مذهبياً، كانت صرخة واحد واحد واحد الشعب السوري واحد، وأنا إنسان ماني حيوان.

 أمام السوريين فرصة وحيدة، لاستعادة صوتهم، وتوحيد هتافهم. فرصتهم احتضان تلفزيون سوريا، وهو تلفزيونهم بما يخرج به عليهم، وما يختزنه موقعه ومدوناته. فوق أي ألم، وأي جرح. فوق أي اختلاف أو نزاع أو صراع. هنا الحاجة إلى تجسيد معادلة الشعب السوري واحد، وأن السوري إنسان وليس حيواناً بعثياً. وأمام التلفزيون فرصة أيضاً، لتجسيد شعاره "حرّية للأبد". باحتضان كل أطياف ومكونات المعارضة، كل الصرخات والهتافات، كل الهموم والتوجهات، واختزان كل الاختلافات والتنوعات. خارج السياقات التي أنتجها البعث وتمكن منها في زرع العقلية الأمنية أو الاستخبارية في نفوس السوريين، الذين فقدوا الثقة بكل من حولهم.

 أمام السوريين وتلفزيونهم، فرصة لاستعادة اللحمة، خارج كل الصناديق. وهم الذين أقبعهم نظام الأسد في صندوق أسود على مدى نصف قرن. نفسياً واجتماعياً، قبل الثورة وبعد المجازر التي تعرّض لها السوريون، لا بد من بحث بسيكولوجي وسوسيولوجي عميق، بندبات حُفرت في أعماقهم. ندبات يحتاج السوريون لبلسمتها، وذلك لا يكون بالتناحر ولا بالركون إلى نظرية المؤامرة التي فرضها النظام عليهم، لتبرير سحقهم، فسحقوا أنفسهم بها.

 أمام السوريين وتلفزيونهم، فرصة لاستعادة اللحمة، خارج كل الصناديق. وهم الذين أقبعهم نظام الأسد في صندوق أسود على مدى نصف قرن

عندما هتفت سوريا حرية، خرجت من "علبة" النظام. وتلك وحدها معجزة، لا بد من توقع آثارها السلبية في مدار البحث عن أفق وعن حلم لا بد من تحقيقه. على الطريق ستكون هناك نكسات، لا علاقة لها بالنكسات العسكرية والسياسية التي منيت بها المعارضة السورية، بل نكسات على الصعيد النفسي والاجتماعي، وعلى صعيد علاقة السوريين ببعضهم البعض.

 لكن الأساس يبقى، في عدم سماح السوريين لتتملك منهم نزعة التشفي بفعل الهزائم، لأن يطالوا أنفسهم وبعضهم بها. على غرار ما يحصل من خلافات وصراعات تتحول إلى قضايا رأي عام وتوضع في سياقات المؤامرات أو تحيل جزءاً من السوريين المعارضين أو من مؤسساتهم إلى ما يوسم بأوكار المخابرات، هذا النوع من الانتقام أو التشفي، أو التعبير عن الغضب الكامن، لا يصيب المُستهدف فقط، ولا يصيب المخطئ، إنما يصيب المطلق أيضاً، وذلك عمق أزمة السوريين. وهنا الحاجة الضرورية للخروج من هذه "التعليبة" التي فرضها النظام، ولم تخرج من عميق نفوس السوريين بعد.

 جانب من هذه الطبائع الاجتماعية، التي تعتريها نزعة الانتقام أو البروز في خانة الدفاع عن الحقوق والثوابت، على قدسيتها، تعتريها من جانب آخر، مشكلة "الفوضوية الاجتماعية"، أو فوضوية الفضاء المفتوح، على كل ما يُعلن بلا أي تمحيص أو سؤال، فيتحول المجتمع كله إلى ظاهرة صوتية، تردد ما قاله شخص ما وسبق الآخرين إليه، فيصير حكماً مبرماً غير قابل للنقد، وهذه ثقافة تدميرية أيضاً لا تطال السوريين وحدهم، يخبرها اللبنانيون وكل المجتمعات تقريباً، وهي نتاج لمنظومة التفاهة على ما يصفها أحد أهم الفلاسفة الكنديين آلان دونو في كتابه والذي يصلح ليكون كتاب القرن الواحد والعشرين "نظام التفاهة". في هذا النظام، يصدر المدّعي حكمه، وتتقبله الجموع بلا أي نقاش أو انتقاد أو تحليل، فتتحول المجتمعات إلى خلايا للتفاعل مع الفاعل بلا تحليل لأي وقائع أو بواطن.

 ذلك ليس بهدف تبرير أي خطأ، إنما بهدف الإضاءة على مكمن حقيقي لمشاكل تعيشها المجتمعات وخصوصاً في هذه المنطقة، بحيث يستدرج التافه كل المجتمع إلى خانته، فعل تأثير وسائل الاتصال الحديث، والتي تتمتع بسرعة الانتشار، فيستسهل المتلقي الركون إلى ما لُقن به. قد يكون هناك خطأ، وقد يكون هناك خطايا، لكن علاجها ليس بالتخوين، ولا بجلد الذات أكثر.

فرصة السوريين الوحيدة، واللبنانيين أيضاً برهانهم على السوريين، هي الخروج من تلك الشرانق إلى رحاب أوسع، على قاعدة الخصومة والاختلاف والتنوع، بما يغني وليس بما يبرر الاستمرار في الصراع أو التخوين. ليس للسوريين غير بعضهم، وليس لنا غيرهم مجتمعين، هم رهان وأمل، ولا بد من خلق مساحة للتعبير، فرصتها الآن تلفزيون سوريا، الذي لا بد من احتضانه وتوسيع مروحته ونطاقه. لم يعد للسوريين إلا الصوت والصورة، كل الأمل في عدم خسارتهم، كما خسروا السياسة مرحلياً. وهذا الصوت فرصتهم ليستعيدوا ما خسروه في السياسة.