"الصليبيّة" في اللاوعي الجمعي الفرنسي

2023.09.08 | 06:03 دمشق

"الصليبيّة" في اللاوعي الجمعي الفرنسي
+A
حجم الخط
-A

أذكر أن شيخ الجمعة في ضيعتنا قال في إحدى خطبه قبل سنين طويلة إن الجنرال غورو عندما دخل دمشق على رأس القوات الفرنسية التي احتلت سوريا عام 1920 قصد قبر صلاح الدين الأيوبي، فركل الضريح بقدمه وقال: "لقد عدنا يا صلاح الدين." وأذكر أني ضحكت يومها بيني وبين نفسي وعجبت من مهارة رجال الدين في ابتداع القصص التي تبرّر نظرتهم الدينية الضيقة لأحداث الحياة. لكنّي اكتشفت لاحقاً أن الشيخ كان على حقّ، وأن القصة التي ذكرها واردةٌ في المصادر الفرنسية، مع اختلافٍ طفيف بالتفاصيل. بل إن رواية الشيخ لم تكن إلا زاويةً صغيرة في سياقٍ تاريخي عريض حيث كان غورو يعتبر نفسه فارساً حديثاً من فرسان الصليب، ومجدّداً لحروب الفرنجة في الشرق وأمجاد الإمارات الصليبية البائدة في سوريا.

في كتابه القيّم (مسافرٌ إلى سوريا) يقدم لنا الباحث والمستعمِر الفرنسي بيير لامازيير ملاحظاته المباشرة عن المهووسين والمتطرفين الفرنسيين الذين أتوا للعمل في سوريا أثناء الاحتلال الفرنسي لبلادنا. ففي رحلته إلى سوريا عام ١٩٢٦ والتي وثّقها في الكتاب المذكور يكشف لامازيير أن الكثير من الفرنسيين الذين نزلوا سوريا أتوا ممتلئين بالحماسة الدينية من أجل استعادة أمجاد الحروب الصليبية.

يكشف لامازيير أن غورو شنّ فور وصوله إلى سوريا "حرباً صليبية جديدة على طريقته"، وأنه خاطب أهل دمشق المسلمين في كلمةٍ له ألقاها أمام ضريح صلاح الدين الأيوبي

ويصف الكاتب مواطنه الجنرال غورو بشيءٍ من السخرية فيقول:
"لقد كانت له عقلية الصليبيين، وكان عليه أن يتذكر .. الشخصيات الحربية الإفرنجية، غودو فرواه دو بويون، بودان، بوهيموند، (وغيرهم) من قادة الصليبيين ممن كانوا سبقوه إلى هذه الأرض. كانت سوريا تمثل أمام عينيه أرضاً مسيحية. والمسلم فيها متطفل وغير مرغوب فيه".

ويكشف لامازيير أن غورو شنّ فور وصوله إلى سوريا "حرباً صليبية جديدة على طريقته"، وأنه خاطب أهل دمشق المسلمين في كلمةٍ له ألقاها أمام ضريح صلاح الدين الأيوبي فقال:
"حضوري هنا يكرّس انتصار الصليب على الهلال".

وبخصوص تقسيم سوريا لكياناتٍ طائفية ودويلات صغرى إبان الاحتلال يكشف لامازيير أن ذاك التقسيم لم يكن اختراعاً أتى به الجنرال غورو من العدم، بل محاولةً لاستعادة الشكل الذي كانت عليه سوريا خلال الفترة الصليبية يوم أقام فرسان الفرنجة لأنفسهم قلاعاً وإماراتٍ على امتداد الخريطة السورية وخصوصاً في المنطقة الجبلية غربي سوريا.

ولم يكن الهوس الصليبي مقتصراً على غورو، بل كان يشمل كل العسكريين والمدنيين الفرنسيين الذين صادفهم لامازيير في سوريا حيث أخذ عليهم - بالإضافة إلى فسادهم وانحطاطهم الأخلاقي - توقهم للتقرب من مسيحيي البلاد وعدائهم الصريح واحتقارهم للسوريين المسلمين بوصفهم "كتلة مهملة" لا تستحق الاهتمام برأيها أو برغباتها.

لكن الكاتب بالمقابل يبسط لنا وجهاً مضيئاً من تاريخ المجتمع السوري في تلك الفترة. فمسيحيو سوريا كما رأى الكاتب لم ينظروا لأنفسهم إلا كسوريين. فقد رفضوا تقسيم سوريا و"ضمّوا أصواتهم إلى أصوات المسلمين، وبدؤا العمل منذ (بداية الاحتلال) من أجل الوحدة السورية". وهو يؤكد أن السوريين لديهم نخب مثقفة ومتنورة تعتز بهويتها وتاريخها الذي يعود لما قبل ميلاد السيد المسيح بعدة آلافٍ من السنين. ولذلك فقد تكاتف رجالات سوريا من كل الخلفيات من أجل مطالبة السلطة المنتدبة على سوريا بتوقيع معاهدة سياسية واضحة المعالم تقود إلى تحقيق الدولة الوطنية الموحدة التي كان يطمح إليها السوريون. 

كان من المفترض أن يفقد كتاب (مسافرٌ إلى سوريا) قيمته العلمية مع التطورات الهائلة التي يشهدها العالم في القرن الحادي والعشرين وما يترتب عليها من سقوطٍ للإيديولوجيات، وتبدل للمفاهيم ونقض للأسس القديمة للعداوات والتحالفات. لكن المفاجئة التي دفعتني للتوقف عند هذا الكتاب أني ما برحت ألمس منذ وصولي إلى فرنسا أول مرة قبل أربع سنوات تلك الهلوسات الصليبية القديمة التي فضحها بيير لامازيير في سياسات الحكومات الفرنسية الحالية.

وسائل الإعلام الفرنسية لا تتوقف – ومن دون أيّ سببٍ مفهوم - عن بث الكراهية والتحريض ضد المسلمين مع أنهم يشكلون كتلة كبيرة من النسيج الوطني لفرنسا

كلنا معجبون بالثورة الفرنسية والمبادئ العلمانية الراسخة التي تقوم عليها الدولة الفرنسية الحديثة. وليس سرّاً أن غالبية الفرنسيين ملحدون لا يدينون بدين. ولكن يبدو أن الشعوب والحكومات مهما تبدلت أفكارها تبقى فيها أهواء وأمزجة غائرة لا تنمحي بين ليلةٍ وضحاها. ففي فرنسا التي يُمنع فيها الأذان في المساجد لا تتوقف الكنائس عن قرع أجراسها بسببٍ وبلا سبب، رغم أنها مغلقة لا يشعر بوجودها أحد. كما أن العطل الرسمية تراعي كل المناسبات الدينية المسيحية مهما كانت ثانوية بينما لا يوجد يوم عطلة واحد يخصّ المسلمين الذين يشكلون بلا مبالغة الديانة الأكبر عدداً في فرنسا. ووسائل الإعلام الفرنسية لا تتوقف – ومن دون أيّ سببٍ مفهوم - عن بث الكراهية والتحريض ضد المسلمين مع أنهم يشكلون كتلة كبيرة من النسيج الوطني لفرنسا ذاتها. والكثير من المسؤولين الفرنسيين ليس لهم من همّ إلا مراقبة ما تلبس المسلمات في بلادهم مع الصراخ والاحتجاج كلما لاح حجابٌ أو برزت عباءة. بالأمس قرر وزير التربية غابرييل أتال (وهو من المثليين جنسيّاً) منع الفتيات المسلمات من ارتداء العباءة في المدارس. وكان زميله وزير الداخلية جيرالد دارمانان قد صرّح بلا خجل أوائل هذا الصيف أن الإرهاب الإسلامي "السنّي" هو الخطر الأكبر الذي يهدد فرنسا، مع أن فرنسا فيها مليون مصيبة ومصيبة ليس للإسلام ولا للمسلمين علاقة بها. فانظر كيف يتشبّه هذان الوزيران بفرسان الصليب في العصور الوسطى، وكيف يضعان نفسيهما في موضع أولئك المهووسين الذين أتوا إلى سوريا محتلّين قبل مئة عام.