الشوق هو خبز السوريين الوحيد زمن الحرب

2023.06.17 | 07:29 دمشق

الشوق هو خبز السوريين الوحيد زمن الحرب
+A
حجم الخط
-A

الشوق هو الخبز الوحيد المتاح زمن الحرب، متوفر لكل المتحاربين بالتساوي. لا يحتاج إلى بحر لتجدف سفنه بكلماتها. الشوق هو الطريق الوحيد الذي تمشي عليه سيارات من دون وقود.

الشوق مخلوق نوراني لا يراه جنود يبحثون عن جوازات سفر مزيفة أو حقيقية في المطارات، فهو يختفي في اللحظة المناسبة من العيون حين يشعر أن هناك من سيعتقله، يعود إلى القلوب حيث مدينته الفاضلة هناك.

الشوق هو الكائن الوحيد الذي يطفئ ذاته بالدمع، وهو جواز السفر لكل من نحب، لا يحتاج إلى أختام أو مدققين على تطابق حضوره مع ملامح وجوهنا.

الشوق هو جسري إليك، لا أنا قادر على أن أرجع منه، ولا أنت من زواره لأتقدم إليك. أراني معلقاً في الهواء، لا تؤثر في جسري إليك الطلقات التي يتبارى الجنود في توجيهها إلى أعداء لا ذنب لهم، سوى أنهم أحبوا أشياء دون الالتفات إلى ذاكراتهم. لو كانت ذاكرتهم بكامل أناقة استيقاظها، لما حدثت الحروب، لكنها الذاكرة تغافل الجسد بنوم عابر فتبدأ حروب تكره النهايات، مهمتها الرئيسية استنزاف اللحظات الجميلة.

الشوق يغافلني أحياناً فيأتي على شكل مكتبتي التي نسيتها في دمشق، في لحظة غفلة، أو وهم. دمشق تعاقبني كل لحظة بذاكرة لا ترغب في الانطفاء.

قالت لي دمشق: ستعود قريباً يا صغيري، ولستَ ساذجاً لتأخذ كل ما تحبه معك، فـ "بقجات" المطارات لا تنظر إلى الشوق لتقدر أوزان المسافرين، بل إلى الميزان على خط سير الحقائب، وأعلم أنني لا يمكن أن تحملني معك، فأنا مثل شوقك ضعني في مدينتك الفاضة هناك واحتفظ بي على شكل دمعة كلما ذرفتها ولدت دمعة جديدة.

سأقول لكِ سراً آخر من أسراري: أنت دمشق، التي زادتها الحرب بُعداً، أو قرباً، أقرأ صُورك كل يوم... فأنام على صدر دمشق بعد غياب، وحين يوقظني منبِّه العمل كل صباح، أحمل معي آخر لحظاتي الطازجة معك، أُنعشها بذاكرتي إلى أن أعود مساء لأرسل لك نسمات تصيب رموشك بالبرد، حتى لا تنامي. لم يصدقوا حين قالوا لي: أحبب حتى تنام على صدر من تحب! جربتُ ذلك، لكن حين أكون في حضرة من أحببت لا يكون لدي الوقت لأنام.

لا تقلقي سيدة الجمل التائهة، يا امرأة تفتحت في زمن الحرب حيث تكثر الحسابات، فترابط اللغة عند مرابض القلب، تبحث عن نهاية عاجلة للحرب

سأقولها بالفم الملآن شوقاً: أخاف عليك من النوم في زمن الحرب، وشهرزاد استهلكت كل الحكايات، وأنا أكره القذائف الطائشة في زمن الحرب، الوقت الوحيد الذي أحببت فيه القذائف الطائشة هو زمن الحب، زمن الحب ممتلئ بالضحك والطلقات الطائشة.

ما أجمل القذائف الطائشة زمن الحب، تأتيك غفلة، وأنت تمشي في طريق دمشقي، تغمزك عيناها، فتركض نحو طريق لا تعنيك نهايته. في لحظة ما، أقرأ رأسك الذي تملئينه بالأفكار المؤجلة، فأبتسم لك: لا تقلقي سيدة الجمل التائهة، يا امرأة تفتحت في زمن الحرب حيث تكثر الحسابات، فترابط اللغة عند مرابض القلب، تبحث عن نهاية عاجلة للحرب، تستعجل زمن الحب! لكنه شأن الحروب في كل العصور، حين تنتهي، يكون زمن الحب قد صار ثقيلاً حملُه، وفات أوان القلب.

تعالي إلي، فجسر الشوق الذي أقف عليه يبحث عنك في المعاجم اللغوية، ينسج كلمات، يشكل منها جملاً تريد أن تعيش معاً ساعات، فقد ملت وحدة العيش. يبحث عنها مستجدون على اللغة دون بيئتها الحاضنة، تبحث عن سياق، يأتي إليه رجال ونساء من مختلف العصور ليفككوا زمن حربه، وزمن حبه.

الشوق هو أن أستيقظ كل صباح مبتسماً، أقف في منطقة اللايقين، حيث ذلك الشباك ذو الزجاج الواسع والنظيف، يأخذني على فضاءات تلمّ شمل الجمل المبعثرة التي ضاعت في الأيام المشمسة، لا تصدق أن هناك شمساً في هذه البلاد التي تعشق المطر، أصبِّح عليك: الشمس والمطر أسماء تقليدية لمناخ يعاني من احتباس الشوق في طبقة أوزون البعد والفراق.

الشوق هو أن أمضي يومي بشكل طبيعي كأن حرباً لم تكن، كأن سيرة ذاتية لم تتشظ، أبدأ نهاري من جديد بكامل أناقتي اللغوية، حيث أقول لك: صباح الخير يا فتاة من كلمات تبحث عن دلالات مختلفة، تنتظم في جمل متجاورة لتشكل نصاً اسمه: أنا وأنت وطريق من الشوق.

الشوق يا غائبة، دون أن تتقصد الغياب، هو المسافة بين أمنية تحققت، وأمنية دفنت روحها في صدى القلب على خليج من انتظار فقير بالدموع، وأمنية تبحث عمن يستطيع تحقيقها، فالأمنيات تموت مقهورة إن لم يكن لها من متلهفين، روحُ الأمنية لهفتي عليك.

كل أولئك الذين رحلوا وأحببتُهم، قرأت كتبهم هم شوقي إليك. رحيلهم أبعد من قبض أرواح. الحالة أقرب ما تكون إلى أنهم وجدوا أنفسهم دون صدى، جربوا أصواتهم لكنها ضاعت في زحام الأمنيات الباردة في سحب تلك المدن الضالة التي لمت شتاتنا، ومن قال إن الشتات يمكن أن يلتمّ ثانية، فهل هو زجاج قلوبنا؟ لا تصدّقي أن الشتات يمكن أن يلتمّ، قد يلتقي الشتات بالشتيتيْن، كل منهما يظنان كل الظن أنهما هما ذلك الذي تفارق ذات يوم، لا هذا وهمنا وأمنياتنا المعلقة على حبل غسيل غادرته صاحبته على عجل ووجل دون أن تتاح لها الفرصة لتجمع ما تبقى.

أنشر شوقي إليك على حبل الرغبة بالكلام والتعبير، لكن لا أحد لديه وقت ليسمعني، أو يصغي إلى نداءات عيوني وهي تتأمل سحباً لا تعرف أبجديتها.

مرة؛ قلتُ لي، أو قلتُ لك: الشوق هو أن تنسي شباك غرفتك مفتوحاً، لتطلّ عليك نسمة هاربة من مصيرها، فتجذبها رموش عينيك.

الكائنات التي عرفتها تصاب بالزكام إذا مسّ جسدها بَرْدٌ في غير موعده، إلا أنتِ، دائماً تظهر عليك أعراض الزكام من برد يعتري رموش عينيك، لكن رموش عينيك، آه من رموش عينيك، لا تعرف للنوم طريقاً وهي تهذي بمفردات عن الانتظار.

أقول لك: ليتك ترشِّحين إن تأخر لقاؤنا، على الأقل في هذه البلاد لا يوجد مضادات التهاب، ولا بد أن أحداً يجب أن يهتم بك، سأكون أنا هذا "الـ أحد".

الشوق في نهاية المطاف أمي هناك، حيث تقف على عتبة الفرات، تخاطب ما تبقى من ماء لعله يُحْضِر لها الغائبين.

سأحكي لك الحكاية من أولها، الدخان الذي تطردينه من غرفتك، استجابة لنصيحة الأطباء بأن تبتعدي عن "الأركيلة"، كي تنامي قريرة القلب، ذلك أنه عبر تاريخه الطويل لم يجد دفئاً مثل هذا الذي يسري في روحك، يتحول إلى نسمات عليلة، ويعود إليك، ربما الحق على الشباك وربما النسمات هي السبب، لكن رموش عينيك هي التي تقود كل المعارك التي خسرها قلبي. سأحكي لك الحكاية من أولها كل يوم، جهزي أوراق روحك، وحدنا من سيحقق "مخطوطة" نسيها محققون يريدون تدوين أسمائهم في تاريخ الكتابة، لا بأس علينا إن جعلنا رموش عينيك مدخلهم إلى حرب لا تعرف نهاية.

سأحكي لك الحكاية كل يوم، سأحدثك عن لغتك التي لا تتزحزح قيد كلمة فتتورط بجملة هاربة، تقول لي: اشتقتُ إليك، اشتقتُ إلى كلمات، علامَ تخافين من الشوق؟

الشوق في بداية المطاف هو قدرتي على أن أراك ولا أراك، أريد أن أتركني معلقاً على حبال الانتظار، أركض كـ "سوري" من مؤتمر إلى مؤتمر، ومن سفارة إلى سفارة أبحث عن وطن، ضيعناه بالشوق إلى وطن.

الشوق في نهاية المطاف أمي هناك، حيث تقف على عتبة الفرات، تخاطب ما تبقى من ماء لعله يُحْضِر لها الغائبين. فتَعاقبُ الليل والنهار لم يُعِدْ أولئك المرميّين على أكتاف غربتهم، "ينطرون" تحقق حلمهم، بعد أن تبدّد من بين أصابعهم، لم يبق لديهم من خبز متاح سوى الشوق.