الشعارات تنمو وتتطور وتموت أيضا

2023.09.18 | 04:55 دمشق

الشعارات تنمو وتتطور وتموت أيضا
+A
حجم الخط
-A

"اكذب اكذب اكذب" شعار نازي، صاحبه هو ربُّ الدعاية النازية غوبلز، الشعار مصنوع ليكون آلة مثل بدال الدراجة، أو مجداف القارب، أو دلاء الناعورة، الكذب فعل إرادي، لكنه عند النظام النازي وأشباهه عمل، ومهنة، وعبادة أيضًا، يصدق فيه قوله تعالى: (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون). إن توقف النظام عن الكذب سقط، ومات. وكان الشعار فعالًا في عصر تكمّ فيه الدولة الأفواه وتربط الألسنة، وتستحوذ على كل وسائل الإعلام، وكل وسائل العنف أيضًا، فمن يمتنع عن تصديق كذبة النظام يقتل، ومن عجائب الأقدار أنَّ حزب البعث حزب مستورد من ألمانيا بعد تعديلات وتنقيحات، حتى يناسب الجسم العربي.

وكان غوبلز صاحب حجة وبرهان، ولديه وسيلتان من وسائل الإقناع هما: الخبز والمسدس، الغذاء والموت، وهما وسيلتان متضادتان، ومتآخيتان أيضًا. وقد خسر النظام السوري الوسيلتين أو يوشك أن يخسرهما معًا في حاضنته على وجه الخصوص، فظهر قصر حبله بعد اثنتي عشرة سنة، لكنه يأبى أن يقرَّ بكذبه، فحبله مرن، يقصر ويطول، يثخن ويدقُّ، فمن كان يجرؤ على اتهامه بالكذب يعتقل أو يعذب عذابا شديدا، حبله هو حبل عمره، حبل كذبه مثل دستوره المطاطي.

أطلق الرفاق النار على المتظاهرين بدلًا من دعوتهم إلى مناظرة، فإن فعلوا انقطع حبلهم بسيوف الحجج وأمواس البراهين

وقد بعث حزب البعث من الموت بالأمس وخرج من الثلاجة، أليس اسمه حزب البعث، فانبعث حيًا في السويداء، وهي المرة الأولى التي نرى فيها الرفاق البعثيين مناضلين بالسلاح لا بالكلمة والشعارات الكاذبة بعد نوم طويل، ويرفعون السلاح، ويدافعون عن مقرِّ الحزب، فقد أطلق الرفاق النار على المتظاهرين بدلًا من دعوتهم إلى مناظرة، فإن فعلوا انقطع حبلهم بسيوف الحجج وأمواس البراهين. انقطع جسر سميرة توفيق من دوس رجليها، ولم ينقطع حبل كذب النظام الطويل من براميل البارود.

وقد أكبر كاتب السطور غيرة البعثيين على مقر حزبهم في السويداء، بل إنًّ غيرتهم على مقرِّ حزبهم أكثر من غيرتهم على صور الأسد التي حُطمت في السويداء، والتحطيم هذه المرة مختلف عن تحطيم تماثيله وصوره في المحافظات الداخلية، لأنه استطاع تهجيرهم وبناء تماثيل جديدة لأبيه ولنفسه أيضًا.

روح هذا النظام في الصور والأنصاب!

 أما سبب علوّ غيرته على الحزب دون صور الرئيس، فلأن صور الرئيس منتشرة في كل مكان، ولا يستطيع أن يدافع عنها، في حين يستطيع عناصر الحزب أن يكمنوا في المبنى ويدافعوا عنه. وثمة مرونة عند الرفاق في الشعار، فأحيانًا يغدو الحزب خطًا أكثر احمرارًا من خط الرئيس الأحمر نفسه.  لنقل إنها سكرات الموت الطويل.

وقد عجبنا من انبعاث البعثيين من رماد موت حزبهم، فمرحى لهم مرحى، فقد جاؤوا بالبِشر وبالفرحة، فالبعث عقيدة النظام، وقد احتاج إليها، كان الحزب قد اختفى وشاخ، وغابت مؤتمراته، وخمد لقب الرفيق، وضمرت شعارات الحزب سوى في المدارس، حتى إن النظام أعلن مبكرا إلغاء المادة الثامنة، فالمادة الأولى غير المعلنة، هي الأمن والمخابرات.

قسم المعاصرون الكذب كذبين، كذب أبيض وكذب أسود، أما كذب النظام، فهو بالألوان الخلابة، يغلب عليه اللون الأحمر، لون الدم، والدم يسودّ عندما يجفّ، فكذبه أسود.

عوقب الشعب السوري على كشف أكاذيب النظام بالإبادة الجماعية، كي يحافظ على قدسية الكذبة التي يحكم بها. وهي أن الحكم مسؤولية وليس مجدًا أو شرفًا كما نتصور نحن المساكين.

شعار اكذب اكذب اكذب تحول إلى شعار آخر هو: اقتل اقتل اقتل، فالمقتول لا يستطيع إنكار الكذب. استشهد مئات الألوف أملًا بكشف أكاذيب النظام، لكنه ما يزال ينكر حتى الآن

ليس للنظام سوى طريق وحيد هو القتل، وهو ممنوع منه في السويداء، وكان أحد أسباب التعذيب في السجون حتى الموت، هو أنَّ الضحية، على الرغم من اعترافها بكل ما ينسب إليها تُقتل، لأن السجان يعرف أن الضحية إنما تقرّ بالتهم المنسوبة إليها بسبب التعذيب وخشية الموت. فآلة كشف الكذب هي القتل، الميت لا يكذب، الميت لا خوف منه. لكن وبسبب تهالك وسيلتي النظام، الخبز والمسدس، وكثرة وسائل التواصل الاجتماعي تحول الكذابون، وهم إعلاميو النظام وشيوخه وفلاسفته إلى مهرجين. لنذكر مظاهرات من أجل المطر، واستشارة بوتين للأسد من أجل أوكرانيا، وضحايا الغوطة بالكيماوي هم من الساحل، إعلاميو النظام مهرجون لكن الدماء توهن من أدائهم الكوميدي.

شعار اكذب اكذب اكذب تحول إلى شعار آخر هو: اقتل اقتل اقتل، فالمقتول لا يستطيع إنكار الكذب. استشهد مئات الألوف أملًا بكشف أكاذيب النظام، لكنه ما يزال ينكر حتى الآن، فالصدق مستحيل، وهو مكره على الكذب.

يقول المثل العربي: عِنْدَ النَّوَى يَكْذِبُكَ الصَّادِقُ، كيف والنظام كان نائيًا دومًا، وتعبر عن النأي جملة "منفصل عن الواقع" التي جاءت من الترجمة اللاتينية.

 لقد كان شعار هذا النظام الخفي هو "الحكم خدعة"، فالحكم حربه التي لم تتوقف يوما، والشعب عدوه الوحيد.