الشامان السوري.. حاشية على شهادة راتب شعبو

2024.06.11 | 06:01 دمشق

6422222222222222
+A
حجم الخط
-A

أيكون كل سوري معتقل شامانًا، أو راهبًا رغم أنفه؟ هل كان النظام يحول الكربون البشري – وكان يريد الشعب السوري نسخا كربونية - في المعتقلات إلى ألماس؟

هل كان السجن السوري مدرسة أعدها الأسد وأمدها بالمعلمين وأدوات التعليم حيث؛ المعلم فيها هو الجلاد، والقلم فيها هو الألم، لتخريج الحكماء والشهداء؟

شامان القبيلة، هو شيخها، عرافها، حكيمها، مرجعها الذي ترجع إليه القبيلة في أحكام الحرب والترحال ومواقيت الصيد والزواج، فالزواج ضرب من الحرب أيضًا، وهو امرؤ نجا من مرض، وبرئ من محنة، وخاض ابتلاء عظيمًا، أحيانًا يكون العراف معاقًا، ألمه لدني وليس مكتسبا؛ مثل شق وسطيح وزرقاء اليمامة من أيام الجاهلية، ومثل هوميروس والمعري فيلسوف الشعراء وحكيمهم، أما يوسف عليه السلام الذي كان يعرف "ماذا وراء الجدران": (وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون)، فنبوته لدنية، وتزيده ظلمة السجن نورًا وصقلته علمًا وروته حكمة.

حضرت خطبة زعيم كردي عراقي دُعي إلى سوريا رسميًا في أوائل التسعينيات، أجيز بالعبور برًّا من القامشلي ومخاطبة أهلها، وهو زعيم يتطيّر من ركوب الطائرات، فاستضافته أسرة كردية، ووضعت له سجادة على الشرفة على عجل، زينةً لها، وإخفاء لعيوب الشرفة العارية (كنت أفضل له بطانية)، فهتف جمع من الحضور بحياته كما تهتف الجماهير بحياة الزعماء عادة، فقال لي شاب بجانبي: الكرد كانوا سيحضرون خطبة الزعيم، أي زعيم، لا ينظر في عقله وعقيدته، أكان يمينًيا أو يساريًا، فالتفتُ منبهرًا بشعاعات الألماس تشع من قوله، ثم علمت منه أنه قد لبث في السجن بضع سنين.

لا يعرف كاتب السطور، وقد رأى كثيرًا من أفلام السجون الغربية المأخوذة عن سير ذاتية مثل الفراشة التي كان بطلها قد نفي إلى جزيرة الشيطان (وهي جزيرة تصلح للانتجاع مقارنة بالمعتقلات السورية)، أو المتخيلة روائيًا، مثل سجن شاو شانك الحصين، وتروي كلها قصص هروب ونجاة، ولا تُعرف قصة هروب من السجون السورية، إلا قصة واحدة رواها المعتقل السياسي محمود عاشور (محمود الحموي)، السبيل الوحيد للنجاة من المعتقلات السورية هو الموت، أما قصص التعذيب في قصص السجون الغربية، فأشدّها ما لقيه بطل قصة الكونت دي مونت كريستو في الباستيل من جلد، أو ما لقيه بطل قصة شاو شانك، وهو تعذيب بالجلد أو العزل في الانفرادية، ولا يقارن بما يقع للمعتقل من أهوال وفظائع في المعتقلات السورية.

لم يقيّض حتى الآن لمؤسسة عربية أو أجنبية تصوير قصة معتقل سوري أو عربي، فذلك ممنوع حتى لا تصرف الأنظار عن بطولة السجين الغربي، ولا تكلف  إنتاجًا كثيرا، فستصور في مكان ثابت، ويمكن عمل سلسلة منها أطول من سلسلة: Gunsmoke أو مسلسلة Bonanza. يمكن إحاطة الأرض بأشرطتها وطول حلقاتها عدة مرات، وإنارة ليل الأرض بآلام معتقليها.

إن قصة المعتقل السوري، أو العربي بعامة، قصة "غير مسموح بعرضها" سينمائيا، القصة الوحيدة التي سمح بعرضها أو بعرض جزء منها هي قصة معتقل غزة، وهي قصة شعب، تعرضها نشرة الأخبار في هيئة تقارير إخبارية.

وما شاهد كاتب السطور شهادة معتقل، وقد عرض بعضها على قنوات سورية في المنافي، إلا وتجمّد أمامها، كأنما يشاهد أهل الكهف: "لو اطّلعت عليهم لوليت منهم فرارًا ولملئت منهم رعبا"، وهي شهادات ثرية بالخبرة وغنية بالحكمة والخبر والأسرار السياسية.

وشاهد بالأمس شهادة الشامان السوري راتب شعبو، فوجد فيها ما وجد في معظم شهادات المعتقلات ألماسا مشعا، إنه مثل أصحابه عائد من وراء البرزخ، وكان شابًا في أثناء الاعتقال، في السنة الثالثة الجامعية، أكبر قليلا من محمود عاشور ومحمد برو اللذين كانا دون السن القانونية في أثناء الاعتقال.

وقد تعرض لتعذيب بالدولاب في أول أمره.

يقول الشامان السوري راتب شعبو: إن أدنى أنواع التعذيب هو تعذيب الدولاب، فألمه يزول بعد الترجل منه (كانت وسيلة نقل مثل "بساط الريح"، إلى الجحيم)، وليس مثل تعذيب تدمر بالكبال الكهربائية، الذي يدوم ألمه طويلًا، فدولاب التعذيب هو للتثبيت، وليس لمجاراة الدوران والسباحة الكونية. دولاب يحشر فيه المعتقل، فيصير، مقيدا، عاجزا، مشلولا، دبره في جهة، وقدماه ورأسه في جهة.

بهذا الدولاب كان النظام يدير الحياة السورية السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

تنقلنا شهادة السجين السوري إلى المقابلة بين المعتقل والقصر الجمهوري، فهما وجهان للنظام السوري، السجان هو المستر هايد والرئيس هو الدكتور جيكل، وقد عرف الشامان السوري السياسة وفهمها، أو وعى بعضها من المعتقل، فهو صورة نيكاتف من القصر الجمهوري، وإن السجان هو حارس القصر الجمهوري الأول، وحامي العرش الأعظم.

سررت بشماتة الشاهد في برنامج في الظل في سجانه الذي مات في المرحاض، وقال لو: أتيح له استخراج رفات من عذبوه، لفعل، الانتقام والتشفي خصائص إنسانية. كل معتقل هو شاهد على العصر؛ عصر الشعب عصرا، كما تعصر أفعى البوا ضحيتها، أو حتى شاهد على العصر، بمعنى الجيل أو العهد.

انتظرت كثيرا أن يكّرم المعتقلون السوريون على الشاشة السورية، كما يكرّم أبطال كمال الأجسام، فهم أبطال كمال أرواح.

أحسن راتب شعبو وهو يقول قولا غفلنا عن معناه القريب: " كان شعار الأسد إلى الأبد غير واقعي"، لكن آثار أنيابه التي تركها في أجساد ضحاياه وخريطة سوريا خالدة وستدوم طويلا.