icon
التغطية الحية

الشاعرة مرام المصري لـ تلفزيون سوريا: المنفى هو الركض بقدم مجروحة

2023.06.18 | 17:49 دمشق

شاعرة
+A
حجم الخط
-A

الشاعرة السورية التي تحاول دائما أن تؤسس بالتفاصيل عالما شعريا كاملا، وتجيد التمرد مثلما تجيد الكتابة، ومثلما تجيد الجرأة، وتعرف تماما كيف تعرّي الواقع. إنها مرام المصري التي كسرت قيودها بيدها، وأسنانها، فاختارت المنفى. لأن حرية شخصيتها هي رهانها الأول، وشِعرها هو رهانها الثاني، والثورة السورية رهانها الدائم.

هي التي تقول:

"في طفولتي، كانت أمي دائمًا تحكي لي حكاية الوحش الضخم جدًا، الذي كان قد حكم عليه بالسير للأمام، فإن عاد إلى الوراء سيموت. وكان في طريقه يحطم البيوت والأشجار من دون أن يقصد ذلك، ولكنه لم يكن يملك خيارًا آخر. وفجأة التقى في إحدى القرى بفتاة طيبة وحنونة، غنّت له وتعاملت معه بحنان رغم أنه وحش وبشع، وراحت تخاطبه بكل الألفة وتقول له كم أنه يتسبب بعذاب للآخرين لمجرد أنه يسير. عند ذاك توقف الوحش، وصمت طويلًا، ثم قرر العودة وهو يعرف أنه بمجرد استدارته إلى الوراء سيموت. أنا أريد مما أكتبه الآن أن يكون مثل غناء تلك الفتاة فحسب".

المصري
الشاعرة السورية مرام المصري

في حوارٍ عذب تناول الحب والحزن والغضب والثورة في شعرها، إلى جانب تجربتها في الترجمة؛ تستهل مرام حديثها بتعريف الشعر، بوصفه المكان الذي نتعرف من خلاله على العالم، والمكان الذي نضيع فيه أيضا، فتقول:

الشعر هو المكان الذي نتعرف فيه على العالم وعلى الآخرين، وابعد من ذلك، هو المكان الذي نتعرف فيه على أنفسنا، فهو يفتح او يكسر الجدران التي تحيط بنا، تلك الجدران التي بنيناها نحن لتحمينا، وتلك التي بناها المجتمع والأديان لكي يحافظ على الهيمنة.

الشعر يسهل معرفتنا بالآخر، يبني جسورا، يمهد طرقا، يهدم حدودا ليجمعنا، ففي كل قصيدة نقترب من الاخر، نحاوره، نقاربه.

المنفى هو الموت كثيرا والولادة قليلا. انفصام وانفصال. هو العيش بنصف قلب، وهو الركض بقدم مجروحة، وإحساس من يمشي على حبل يصل بين جبلين ولكنه لا يصل لأي منهما

  • بعد كل الخراب الذي عايشناه في بلادنا، هل ترين بأننا ما زلنا قادرين على إنتاج أدب غير محروق، وينقذ الجمال من كل البشاعة التي تحيط به؟

لمَ لا؟ فنحن شعب يحب الحياة، يحب الجمال، ومن ثم الأدب الذي يتحدث عن المأساة ليس أدبا محروقا بل هو أدب بجمال آخر. الأدب الحقيقي يلذع أحيانا ويترك أثرا ظاهرا، وأحيانا أخرى يمر ذلك الأدب أيضا كمياه البحار والانحدار بنعومة، إلا أنه يغير شكل الحصى والصخور، وأحيانا يفتتها.

  • ما الذي يفعله بنا المنفى؟ وكيف نتحايل على عقارب ساعاته التي تعيد دائما الزمن إلى أوله؟

المنفى هو الموت كثيرا والولادة قليلا. انفصام وانفصال. هو العيش بنصف قلب، وهو الركض بقدم مجروحة، وإحساس من يمشي على حبل يصل بين جبلين ولكنه لا يصل لأي منهما. هو النوم على سرير من غيوم. نتحايل على عقاربه بقوة الأمل والذكريات، ونكذب على أنفسنا باننا سنعود ونعرف جيدا باننا لن نعود. لأن منفانا أصبح داخلنا، استوطن بنا، ونحن بدون أوطان نبقى غرباء أينما ذهبنا.

  • هناك مزيج مدهش من العذوبة والقسوة معا في قصائدك، وتمنح قارئها طعما غريبا من الحلاوة والمرارة اللاذعين، تاركة لنفسها حرية التفرد والتميز، وتنأى بنفسها عن كل المسميات والتصنيفات الشعرية. هل تراهنين على خصوصية قصيدتك أم على قربها من قلب متلقيها؟

أشكرك بداية على هذا الوصف الجميل والعميق لقصائدي، وأرجو أن تكون كما وصفتِها. قد أراهن على الاثنين: على خصوصيتها بتواضعها وبساطتها وما فيها من حب، وعلى قربها من قلب متلقيها. فقصيدتي هي أنا، ومن خلالها أحب، بكسر الحاء وبفتحها. هي وجهي الحقيقي بدون مكياج وتجاعيد. أحيانا ألوم نفسي لهذه العلاقة الوثيقة بيننا، أحاول أحياناً أن أتبرأ منها وأقول بأنها تمثل الأخريات مثلما فعلت بمجموعتي "أرواح حافية" عندما قدمت 50 سيدة وتحدثت عنهن بمجموعة "تصل عارية الحرية"، حين حاولت تأريخ الثورة السورية وآلام الشعب. ولكن الأخريات والآخرون هنّ/م أنا، وأنا هنّ/م.

  • كونك قد عشت تجربة أعمالك ونشرها إلى اللغة الفرنسية؛ برأيك، ما قدرة القارئ الفرنسي على فهمنا شعريا وفهم انزياحاتنا وتراكيبنا الشعرية؟ وعلى التعامل مع خصوصية وجعنا الذي يختزل الوجع الإنساني؟

الحقيقة وجدت الشعب الفرنسي ككل الشعوب التي ترجمت كتبي إلى لغاتها، (أكثر من 19 لغة)، يعني أن التعامل مع انزياحاتنا وتراكيبنا الشعرية تلاقي استقبالا طيبا. لا أظن أن هناك من لا يشعر بوجعنا ويتعاطف معه، ولكن الغريب هو عدم وجود من يتابع. الجميع يتابع اليوم كل التفاصيل المتعلّقة بأوكرانيا، ويقدّمون لها المساعدات (سياسيا وعسكريا وإنسانيا) من كل حدب وصوب، بينما الشعب السوري كان وما يزال وحيدا. أتفاجأ أحيانا -خارج اللقاءات الأدبية- في اللقاءات الاجتماعية كيف أن الناس لا تملك الفضول لمعرفة ما يحدث، فعندما أقول أنا من سوريا، غالبا ما يتابعون الحديث وكأنني لم أقل شيئا. أحيانا أريد أن أهزهم صارخة: "انظروا هناك دماء على صدري وأمهات وعشيقات وإخوة تبكي في عيوني وأنا أنزف". أن تكون من سوريا هذا يعني أن تكون قد قضيت بعض الليل وأنت تفكر بمن يموتون وماتوا في السجون، ماتوا ويموتون من الجوع والبرد والحر والحزن والقنابل والكيماوي.

  • هل ثمة ثورة صنعها بداخلك وقوفك مع الثورة السورية؟

 الثورة التي حلمنا بها طويلا غيرت بي الكثير. جعلتني أرى العالم بشكل آخر، نزعت عن عيني غشاوة السذاجة والبراءة التي غطّت بصيرتي، تعرفت على الإنسان بوجوهه المتعددة! الثورة السورية بالنسبة لي كانت كصدمة كهربائية تشبه تلك التي يحدثونها على صدر من توقف قلبه. وبالوقت نفسه أعطتني أجنحتها لكي أحلق معها، وأسقط وأعود وأطير من أجلها.

  • يقول الشاعر والناقد السوري خضر الأغا:" الحداثة الشعرية العربية هي تأتأة داخل النص". هل تعتقدين أن هذه التأتاة بقلقها قادرة على إنتاج ما يستطيع البقاء؟

أولا أنا أودّ خضر الأغا بشدة، وأحب مواقفه وشعره. الشعر الحديث تأتأة، ربما نعم وربما لا، أستطيع أن أقول إنها اللغة الطبيعية للشعر، وإن الشعر التقليدي هو قوالب اصطناعية للغة، أنا لا أعرف لغة أخرى للشعر غير لغة الحداثة، مع إعجابي وتقديري الكبيرين لكتاب الشعر التقليدي. نعم هذه التأتأة قادرة على إنتاج شعر رائع، وخالد.

  • القصائد التي تتناول حرية الأنثى، وحرية الجسد، هل تمتزج مع الحرية في معناها الإنساني الواسع، ومع حق السوريين بالحرية؟

نحن شعوب محرومة من الحرية، بنسائنا ورجالنا. الحرية بالنسبة لنا هي الفاكهة المحرمة المحبوبة والمكروهة، المشتهاة والمنبوذة، المقدسة والمدنسة، المعبودة والمنتهكة. كل الحريات بقيمها الإنسانية النبيلة تحقق علاقة سليمة بين الشعوب وكذلك بين الأفراد، وتقييد الحرية يبدأ في قوانين المدارس، والبيت، والشارع... نرى نساء يتمتعن بالحرية وأخريات يُقتلن. كل الشعوب لها الحق بممارسة الحرية، وبالعيش تحت أجنحتها، فكيف لا يحق للشعب السوري العريق ألا يتمتع بها؟ إنها حقه الشرعي والطبيعي، لا حرية بدون عدالة واحترام القوانين التي تحفظ كرامة الفرد وتحرص على حقوقه وتؤمن له حياة كريمة.

  • هل غرّدت مرام خارج السرب في المجتمع السوري؟ وما الثمن الذي دفعته؟

نعم، أستطيع القول بأني غردت خارج السرب وما زلت أغرد. للأسف، الكثير من الأصدقاء خيبوا رجائي. ولربما انتظرت منهم الكثير ولكن بدون جدوى، وفي كل مرة أغص وأتساءل: لماذا؟

هناك بالتأكيد أشخاص أدين لهم، لكنهم نادرون. بشكل عام، السوريون لا يشكلون تلك القوة من خلال مساندة بعضهم بعضا.

  • ما تأثير جميل حتمل ومنذر المصري في تجربتك الشعرية؟

 منذر أخي ومعلمي الكبير، بفضله كتبت الشعر، وبفضله تعلمت الألوان والرائحة والكلمة والإنسانية. هو من علمني الحرية والعدالة، وهو من فتح لي أبواب الفن والآداب والموسيقا. وضع كتبه وشعره بين يدي، علمني حب العالم، ووضعني أمام مسؤولية الشعر. أما جميل حتمل فقد كان من الناس الذين أعادوا إلي ثقتي بشعري بعد انقطاع 11 سنة. مقابلته معي وصلت للراحل محمود درويش الذي اتصل به ليمتدح نصوصي وشعري، وكم كان جميل فرِحا حينذاك. جميل الذي مات حبا ونفيا هو أحد الذين أدين لهم بعودتي إلى الشعر.

  • لماذا اخترت إعداد أنطولوجيا للشاعرات العربيات والكرديات، وترجمة أعمالهن؟ 

لا أعرف كيف انخرطت بتأليف الأنطولوجيات. المرة الأولى جاءت مع الربيع العربي، وذلك لأنني وددت مشاركة العالم العربي باندفاعه وصراخه لأجل الحرية، فعملت على "أنطولوجيا الشاعرات العربيات" التي لاقت احتفاء رائعا من قبل القراء والفنانين. وقد شجعني هذا على عمل أنطولوجيا للشعر السوري الذي يكتب في وقت الحرب والثورة، فأعددت هذه الأنطولوجيا أيضا لرغبة مني بفتح حدود اللغة للشعراء الذين يعيشون الدمار. فبعد كتابي "تصل عارية الحرية" كنت عاجزة عن الابتعاد بنصوص ذاتية عما يحصل هناك.

الكردي
شعر النساء الكرديات

بالنسبة للترجمة، فلطالما وجدت فيها عالما مثيرا مثل الرياضة التي تشبه البهلوانية من حيث السير على خيط رفيع تتأرجح عليه بين عالمين ولغتين، أو بين خيالين، فما يصلح أن تقوله بلغة لا يصلح أن يقال في لغة اخرى. ولعل رغبتي بخدمة العالم، وخدمة الشعر هي التي حرضتني وما زالت تحرضني على الترجمة، والترجمة هي مهنة الخدمة، مثلها مثل عمل الأم، والطباخ، وسائقي الباصات والقطارات والشاحنات، لأننا في الترجمة ننقل الأفكار والمشاعر، ونقرب البشر من بعضهم عبر فتح حدود اللغة.

وبخصوص الشاعرات الكرديات، الجميلات وذوات الفكر الحر؛ لطالما تمّ تصويرهن على أنهن مقاتلات يرتدين لباس العسكر ويحملن السلاح، والشاعرات اليزيديات منهن تم تصويرهن كأسيرات ومنتهكات. لذلك كان هدفي هو الإضاءة على الجانب الحقيقي لهن كشاعرات مهمات. هن أخواتي وصديقاتي.

  • هل من اختلاف بين "أنطولوجيا الشاعرات الكرديات" و"أنطولوجيا الشاعرات العربيات"؟

أنا لا أجد فرقا بين الكتابين فهما يستندان إلى الفكرة ذاتها وعلى الرغبة ذاتها بخدمة الشاعرات والشعر. ولو كنت أمتلك لغة أخرى أستعملها كي أترجم كل نساء العالم لفعلت ذلك، ولكن أظن أن كل شاعرات العالم سيجدن صدى في قصائد الشاعرات التي ترجمتها.