السوريون بين ثورتين

2023.12.20 | 07:09 دمشق

السوريون بين ثورتين
+A
حجم الخط
-A

في كل الصراعات التي تتفجر عبر التاريخ هناك أسباب رئيسية وأسباب هامشية، وفي معظم هذه الصراعات يحاول طرف من الأطراف المتصارعة تغييب جوهر هذا الصراع، ونقله من حقله الأساسي إلى حقول أخرى لإضعافه، أو لتغييب جوهره، أو لتفتت قوى خصومه التي يوحدها السبب الرئيسي.

في وقتنا الراهن تعقدت شروط الصراعات ولم تعد التفسيرات الكلاسيكية (الماركسية وغيرها) التي تردّها إلى أسباب نمطية تحددها منظوماتها الإيديولوجية قادرة على تفسيرها، فلم تعد الطبقات هي ذاتها في التعريفات الكلاسيكية، ولم تعد أساليب نهب الثروات هي ذاتها، ودخلت عوامل بالغة التأثير في حياتنا لم تكن موجودة سابقا، كل هذا وغيره، يجعل من التحديات التي تواجه البشرية أكثر تعقيدا، وبالتالي يغير من صيغ مواجهتها، ويجعل من تحديد تموضع أطرافها صعبا ومعقدا.

لكن رغم كل المتغيرات الكبرى التي تشهدها البشرية تبقى الكرامة والحرية والعيش الكريم توق البشر جميعا وسعيهم الدائم الذي لا يهدأ، مهما تغيرت ثقافتهم وأماكن وجودهم ومستوى الحياة التي يعيشونها، ورغم أن البشرية وعت هذه الضرورات واعتبرتها حقا أساسيا لكل البشر، ووضعت المواثيق والمعاهدات والاتفاقات التي تحترم هذا الحق إلا أن الكرامة والحرية لاتزال غائبة وتداس بسهولة وتمتهن على نحو يزداد فظاعة وتوحشا.

الوسيلة الرئيسية التي تنتهجها اليوم معظم الأطراف لتجاهل ضرورات وحقوق البشر الأساسية تكمن في القدرة على تغييب جوهر المشكلة واستبدال هذا الجوهر بمسائل ثانوية عارضة لا تتسبب بطمسها فقط، بل تتسبب أيضا بتعزيز القدرة على استمرار تجاهلها، ولكي يكون الحديث أكثر وضوحا يمكننا قراءة ما آلت إليه الثورة السورية، ويمكننا قراءة ما يجري في غزة، وفي حرب روسيا وأوكرانيا وفي إيران واليمن والعراق ولبنان وكل منطقتنا وغيرها.

اليوم، وبعد قرن كامل يجد السوريون أنفسهم أمام نداءات ومشاريع تقلّ كثيرا في مسؤوليتها الوطنية وفي وعيها لمستقبل الدولة السورية عن نداء الثورة السورية الكبرى

في 23 آب 1925م أطلقت الثورة السورية الكبرى نداء إلى الشعب السوري عبر قائدها "سلطان باشا الأطرش" اختصر مطالب السوريين بأربع نقاط أساسية وقال فيه: إن حربنا اليوم هي حرب مقدسة، ومطالبنا هي:

  1. وحدة البلاد السورية.
  2. قيام حكومة شعبية تجمع المجلس التأسيسي لوضع قانون أساسي على مبدأ سيادة الأمة سيادة مطلقة.
  3. تأييد مبادئ الثورة الفرنسية وحقوق الإنسان في الحرية والمساواة والإخاء.
  4. سحب القوى المحتلة من البلاد السورية وتأليف جيش محلي لصيانة الأمن.

اليوم، وبعد قرن كامل يجد السوريون أنفسهم أمام نداءات ومشاريع تقلّ كثيرا في مسؤوليتها الوطنية وفي وعيها لمستقبل الدولة السورية عن نداء الثورة السورية الكبرى المذكور أعلاه، ولعل السبب الأهم في الرؤية الواضحة لثورة 1925م يكمن في عدم تغييب جوهر الصراع، وفي فهم السوريين لطبيعته وفي إيمانهم بالرابطة الوطنية السورية، على الرغم من تقسيم سوريا يومها إلى دويلات من قبل المحتل الفرنسي، وعلى الرغم من كل التعقيدات التي كانت سوريا تعيشها بعد احتلال عثماني طويل استمر لأربعة قرون.

ما بين الثورة السورية عام 1925م وبين ثورة 2011م هناك تباينات كثيرة، لكن أهمها إنما يكمن في عاملين أولهما هو طبيعة الخصم الذي واجهته كلا الثورتين، وثانيهما هو فهم السوريين للرابطة الوطنية السورية ومدى متانتها، ففي مواجهة محتل خارجي اتحد السوريون على اختلاف تصنيفاتهم، ولم تغب حقيقة الصراع عن أعينهم رغم كل محاولات حجبها وتزييفها، بينما في الثورة الراهنة انقسم السوريون، وتم تغييب جوهر الصراع وحرفه عن جوهره، وبينما رفض السوريون في القرن الماضي تقسيما فرضه الاحتلال واستطاعوا إعادة توحيد بلادهم، نجد اليوم من يسعى لضرب وحدة سوريا وفرض تقسيمها.

الأمر الذي يثير الصدمة ليس في سعي النظام الديكتاتوري الفاسد الذي يحكم سوريا منذ نصف قرن لحرف الصراع عن جوهره الأساسي بوصفه صراع شعب ضد طغمة مستبدة فاسدة، فمصلحته – أي النظام – الكبرى هي في تغييب هذا الجوهر، لكن أن يساهم خصوم النظام الذين يحاربونه في تغييب هذا الجوهر وإزاحة الصراع من حقله الرئيس إلى حقول هامشية أضعفتهم وقوّت من خصمهم كان هو الصادم، والأقسى من هذا كله عدم التنبه لمخاطر إضعاف أو تمزيق الرابطة الوطنية السورية، والذي يُدفع السوريون إليه من قبل أطراف كثيرة بتعمد أو بحماقة.

من يحكم سوريا اليوم هي سلطة لاشرعية لا ترى في سوريا وطنا، ولا ترى في السوريين مواطنين، يقودها شخص ليس لديه أي مهارة أو معرفة في إدارة الدولة

ليس أمام السوريين أي مفر من استعادة جوهر الصراع، ومن إعادته إلى حقله الأساسي، فما يجري في سوريا ليس حربا أهلية، وليس صراعا بين طوائف، وليس انقساما في المجتمع بين مدافعين عن الوطن وبين إرهابيين وخونة كما يحاول رأس النظام السوري وتابعيه القول دائما. والرد على تعنت العصابة التي تحكم سوريا وتنهبها وتتاجر بها لا يكون بـ"عقود اجتماعية" مشبوهة تصدر هنا أو هناك، ولا يكون بهويات دينية أو طائفية ترسخ هنا أو هناك، ولا يكون بإصلاح انتخابات حزبية لحزب لا علاقة له بالوطن ولا بالسياسة ولا يعدو كونه واجهة لطغيان خائن وطنيا، بل يكون أساسا بوحدة السوريين لإنهاء حكم مافياوي مستبد واستعادة السوريين لحقهم في تقرير مصيرهم، وبعد ذلك يمكنهم صياغة عقدهم الاجتماعي الجديد، ويمكنهم وضع دستور عصري يستجيب لحاجاتهم ويضمن لهم مواطنة عادلة متساوية في دولة محايدة تراهم جميعا على قدم المساواة.

من يحكم سوريا اليوم هي سلطة لاشرعية لا ترى في سوريا وطنا، ولا ترى في السوريين مواطنين، يقودها شخص ليس لديه أي مهارة أو معرفة في إدارة الدولة، ومهارته تكمن فقط في المتاجرة بالقضايا الكبرى وبالدولة وبالشعب وبالثروات، ولايزال بعد ما يقرب من ربع قرن من وراثته لسلطة لا يستحقها يوغل في نهب السوريين وقتلهم وتجويعهم وتشريدهم.

في الذهاب لصراعات هامشية، وفي تراجع قوة الرابطة الوطنية السورية، وفي المشاريع غير المسؤولة التي يتم إطلاقها بخفة وبانفعال، يغيّب جوهر الصراع الأساسي، وتتعزز فرص مشاريع التقسيم.