السماء في سجن صيدنايا ليست زرقاء

2023.12.12 | 07:40 دمشق

سجن صيدنايا
+A
حجم الخط
-A

كما هو معروف أجهزة الاستخبارات هي أهم القوى القمعية التنفيذية التي تعمل في الليل والنهار لإسكات وإرهاب أي صوت معارض للنظام القائم، واعتقال المعارضين كان هدفه اعتقال المجتمع بكامله، وحينما كان المعتقلون في ثمانينيات القرن الماضي يبحثون داخل زنازينهم عن آليات للتكيف ومقاومة الزمن الأسدي والقهر، كان هناك في الخارج أهالي أمهات وأخوات وإخوة يريدون شدّ أزر المعتقل والوقوف لجانبه. خاصة عندما سمحت الاستخبارات بزيارة المعتقلين.

غالبية المعتقلين اليساريين، حزب العمل، حزب البعث الديمقراطي، المكتب السياسي وغيرهم، ينتمون طبقياً إلى الفقراء. وفي الثمانينيات كان الحصول على كيلو بندورة من الجمعيات الاستهلاكية يحتاج إلى انتظار في الدور يمتد لساعات، وهنا كانت معاناة أهالي المعتقلين مضاعفة، فعليهم تأمين احتياجاتهم واحتياجات المعتقل. فقد كانوا يسمحون للأهالي بإحضار كثير من الحاجات الغذائية والدوائية إضافة للمال، وأنا هنا أتحدث عن سجناء اليسار من حزبي العمل والبعث الديمقراطي. حيث خبرتي هنا كانت شخصية. 

اقترب زمن الزيارة، كانت هذه الجملة ثقيلة جداً على الأهالي، فعليهم أولاً ترتيب وشراء ما يحتاجه المعتقل ومن ثمّ التحضير لكيفية الحصول على الإذن الخطي من الاستخبارات، فقبل تعريض المعتقلين لمحكمة أمن الدولة سيئة الصيت، كان يُطلب إحضار إذن خطي من الاستخبارات ومن ثم من الشرطة العسكرية في القابون وبعدها يُسمح للأهالي بمتابعة طريقهم لزيارة أبنائهم في سجن صيدنايا، أو المزة أو تدمر.

كان الاستنفار العائلي عالياً والأمهات والأخوات يحضّرن كل تلك المواد قبل وقت، فاللحمة مثلاً، كان يجب سلقها نصف سلقة وتمليحها قليلاً، ولا بدّ من إحضار الدواء للابن أو للزوج المعتقل أو للأب المعتقل إلخ. وبعد أن يتم تكليف أحد أفراد الأسرة بمهمة إحضار ورقة الزيارة من الاستخبارات، كان البقية يعملون على تحضير كل ما يمكن تحضيره. دون نسيان تأمين الباص، حيث تتفق عدة عائلات على الذهاب في باص، ميكرو وتقاسم أجرته.

في يوم الزيارة يصحو الجميع بحدود الرابعة صباحاً ويدور الباص الصغير على العائلات يجمعها معاً في الباص البارد ويمضي بهم جميعاً نحو القابون للحصول على الموافقة الخطية من الشرطة العسكرية، هناك عليهم الانتظار فالدخول يحتاج لوقت وانتظار وبعد امتلاك الموافقة، يعودون لمتابعة السفر نحو صيدنايا.

كما تعرفون كان القهر مضاعفاً على تلك الأسر المنسية وكان عليهم الصمت وابتلاع ألسنتهم كلما سمعوا إهانة من سجّان أو من عسكري.

كان على جميع الأهالي أن يشعروا أنهم أيضاً معتقلون، كان على المجتمع السوري بكامله أن يشعر أنه كله مطلوب للاعتقال

على الحاجز الأول في سجن صيدنايا ينزل الأهالي من الباص ويقوم أحد عناصر الشرطة العسكرية بتسجيل بيانات السائق، اسمه ورقم الباص، كما يقوم بتسجيل أسماء كل الزوّار ثم يقومون بتدقيق الأسماء في الهويات مع واقع أشكال الزوار.. ينادي العسكري على الأسماء فيرد الزائر.. يتفحصون وجوه الزائرين، ثم يعود الأهالي للباص الذي يذهب بهم للحاجز الثاني ضمن السجن هائل المساحة، هنا على الزوّار النزول وإنزال كل أغراضهم معهم، حيث يجب أن يعود الباص فارغاً لينتظر خارج السجن، بينما يتمّ فحص وتفتيش كل الأغراض والمواد التي تمّ إحضارها. وغالباً ما كانوا يفتشون بشكل عشوائي ولا يعيدون طبعاً أي غرض إلى مكانه السابق، وعلى الأهالي هنا أن يعيدوا ترتيب الأكياس والحقائب مرة أخرى. 

بعد التفتيش والتدقيق، يُسمح للأهالي بصعود الطريق الجبلي نحو بناء السجن، كان الطريق صعباً خاصة على كبار السن وطبعاً كان من غير المسموح لأي عنصر مساعدة الأهالي في حمل أغراض أبنائهم والصعود بها نحو السجن. كان الإذلال ممنهجاً. كان على جميع الأهالي أن يشعروا أنهم أيضاً معتقلون، كان على المجتمع السوري بكامله أن يشعر أنه كله مطلوب للاعتقال.

يصل الزوار تباعاً لأقصى الطريق العالي بعد أن يساعد الشباب من الزوار كبار السنّ وهنا يتّم جمع كل الأغراض معاً، ولاحقاً يتّم إحضار عناصر السُخرة، "وهم سجناء قضائيين بتهم مختلفة معظمها فرار من الخدمة" لحمل الأغراض لداخل السجن. 

بعد دقائق يصل المساعد أول الذي يتكفل بتوزيع الزوّار على الشبك المخصص لهم، وهنا يتاح للأهالي مشاهدة أبنائهم وإلقاء السلام على معتقلين آخرين كانوا يقفون على نفس الشبك العريض. شباك السجن هنا تكون منفصلة لقسمين، حيث يقف عنصر حرس داخل الشبك وذلك بين الأهل والمعتقل ليسمع كل كلمة تدور، وعبره يقوم الأهل بتسليم المال للمعتقل، حيث يقوم هو بفحص وتفتيش المال النقدي. 

ذات مرة قالت أم لابنها في سجن المزة، "كن يا بني قوياً، وغلاوتك لا يوجد سجن أغلق على أحد للأبد" كان المساعد أول يومها يستمع للأم وفسّر ركلامها بطريقته قائلاً، نعم يا فلان قصد الوالدة "أن تكونوا أقوياء ضدّ الرئيس والوطن". في نفس السجن، كان قد طَلب المعتقل من أهله عدم جلب القهوة، لأن عناصر الشرطة يسرقونها.

مدة الزيارة كانت في غالب الأحيان ربع ساعة، ربع ساعة للسؤال عن الصحة وإخبار المعتقل بكل ما يحدث في البيت، وكيف أنهم بخير وكيف عليه أن يكون قوياً، وكيف تمشي الحياة في داخل السجن وخارجه.. وقبل أن تنطق الأم جملتها التالية، يكون السجان قد صرخ "انتهت الزيارة". 

تتكئ تلك العجوز الأم على عكازها، وتنادي الربّ، تعاتبه، وتطلب منه الفرج. بينما تتيبس عروق نساء زوجات وهن بانتظار الإفراج عن أزواجهن.

على جدران سجن صيدنايا، وضع السجانون أقوال حافظ الأسد ومنها "لا مكان في هذا البلد إلا للتقدم والاشتراكية" يهمس شاب زائر لأخيه وهو يُنهي زيارة أخيه المعتقل، "كما أعرف فإن أخي كان تقدمياً واشتراكياً" الأخ يهمس له. اخرس لو سمحت. 

انتهت الزيارة، ويعود الأهل خطوة خطوة، قهراً قهراً، دمعة دمعة، نحو حياتهم العادية في الخارج، يخرجون من المعتقل مخنوقين بالبكاء، بالصمت، يراقبون هذا السجن الرهيب الذي كلف ملايين الدولارات والغاية منه هو إرهاب واعتقال كل رأي آخر.

تتكئ تلك العجوز الأم على عكازها، وتنادي الربّ، تعاتبه، وتطلب منه الفرج. بينما تتيبس عروق نساء زوجات وهن بانتظار الإفراج عن أزواجهن. التهمة كانت (أصحاب رأي).

يحمل الأهالي أوجاعهم ويخرجون مهزومين تماماً، نعم لم الخجل؟، القائد الخالد وعسكره واستخباراته هزموا الناس، السوريين، هزموا الشعب المسالم، قهروه وأذلوه.

يركبون نفس الباص، يقتلهم الصمت، بينما يغنّي أحدهم يا جبل البعيد خلفك حبايبنا.

هكذا هي الحكاية، وهذا ما كان يحدث، وما يحدث الآن أيضاً إنما على نحو أصعب وأشدّ. 

ويأتيك الآن سائح أجنبي ينتمي إلى اليمين المتطرف الأوروبي لدمشق ليأكل الشاورما، وليخرج علينا قائلاً بأن دمشق هي مدينة الياسمين، وأن لا شيء يحدث هناك. وأن السماء زرقاء والعصافير تزقزق.