السطو على العقل

2020.11.23 | 23:01 دمشق

le_film_hold-up.jpg
+A
حجم الخط
-A

انتشر كالنار في الهشيم فيلم تسجيلي فرنسي على وسائل التواصل. وقد حاز هذا الشريط، الذي تم إنتاجه بتمويل تشاركي أعلن عنه في المواقع المتخصصة على الشبكة العنكبوتية، على أعلى نسبة مشاهدات في أقصر مدة. حيث تجاوز عدد متابعيه الملايين الثلاث منذ أن أطلق له "العنان".

يحمل الشريط عنواناً جاذباً للغاية وهو "السطو". والمقصود بالسطو هذا ما رغب الشريط في توثيقه كعملية عالمية سيئة الطوية تهدف للسطو على حيوات البشر ومستقبلهم من خلال "إنتاج" فيروس كوفيد 19. إنه شريط تسجيلي يعتمد أولاً وأخيراً على نظرية المؤامرة الكونية التي وجدت لها مرتعاً خصباً في عقول البشر منذ الأزل وكما ساهمت وسائل التواصل على تنوعها في ترسيخ نجاحها في "السطو" على عقول وذائقة الناس منذ أن أتيح لها ذلك.

وعلى العكس من تأثير نظرية المؤامرة حديثاً على العقول، ففي قديم الزمن، كان الناس يتسلون بالأسطورة ويتناقلون الحكايات. وهذه الحكايات، وعلى الرغم من عدم استنادها إلى حقائق،

يمكن اعتبار النص الذي كتبه الراهب الفرنسي أوغستان بوريل، والذي تم نشره في نهاية القرن الثامن عشر، كأول نص تترسخ فيه فكرة نظرية المؤامرة

إلا أنها كانت تُثري الخيال دائماً وتكون أحياناً مبعثاً على التسلية. وهي تستند في بعضها إلى بعض الأحداث التي يمكن توثيقها تاريخياً دون الوصول إلى درجة الدقة الكاملة، مع توسع الاجتهاد في سردها وعرضها. كما غالباً ما كانت تحمل دروساً أخلاقية أو عبرة ما. وفي المحصلة، كان وقعها غالباً ما يكون إيجابياً حيث لا يسعى المؤلف أو من تناقلها إلى الإساءة لا إلى فرد ولا إلى جماعة بشكل مباشر.

تاريخياً، يمكن اعتبار النص الذي كتبه الراهب الفرنسي أوغستان بوريل، والذي تم نشره في نهاية القرن الثامن عشر، كأول نص تترسخ فيه فكرة نظرية المؤامرة. حيث اعتبر بوريل بأن الثورة الفرنسية سنة 1789 لم تكن خلاصة حراك شعبي عفوي ولا هي احتجاجات جماهيرية ضد الإستبداد، بل كانت عملية مدبرة ومؤامرة ضد الدين المسيحي مخطط لها من قبل عقول استغلت سذاجة العامة. بالمقابل، يعتبر الفيلسوف البريطاني كارل بوبر هو أول من حدد تعريفاً واضحاً للمفهوم في العلوم الإنسانية الحديثة وذلك سنة 1945. وقد عرّف بوبر نظرية المؤامرة بأنه حدث سياسي تسببت به عملية محددة وسرية لمجموعة من الناس لهم مصلحة في إنتاجه، وليس أبداً بسبب الصدفة أو الحتمية التاريخية. أما عالم الاجتماع البريطاني بيتر كنايت، فتعريفه يتطابق نسبياً مع بوبر، حيث إنها نظرية تضع في مقدمة المشهد مجموعة محدودة العدد من الأشخاص الأقوياء يتم التنسيق فيما بينهم بشكل سري للتخطيط والقيام بعملية غير مشروعة ومضرة للتأثير على مسار الأحداث.

وفي منتصف القرن التاسع عشر، وعند انتشار وباء الكوليرا الذي فتك بملايين البشر في العالم، انتشرت لدى الكثيرين بأنه ناجم عن اختراع بشري مقصود من قبل البرجوازية المنبثقة عن الثورة الصناعية وذلك بهدف التخلص من الحركات العمالية ومطالبها المتزايدة والمترافقة مع تراكم الثروات. وفي بداية القرن العشرين، كتب بعضهم، بدقة وإحكام، نصاً بعنوان "بروتوكولات حكماء صهيون" أسنده إلى مؤامرة يهودية للسيطرة على العالم وإخضاعه من خلال تصور اجتماع سري لقيادات يهودية والخلوص إلى تحرير محضر للاجتماع وردت فيه النقاط الأساسية لهذه المؤامرة.

وقد تبين بأن النص محرر من قبل مخابرات القيصر الروسي حينها. ولكن هذا لم يمنع ملايين البشر من تصديق النص وبالاستمرار حتى يومنا هذا بالاستناد إليه وذكره. 

غالبية من تحدث فيه من خبراء وعلماء، لم يكونوا على علم بهدف المنتج الأخير كما صرّحوا لاحقاً  

في السنوات الأخيرة صارت القضايا المهمة التي تشغل الرأي العام مجالاً خصباً لنمو نظرية المؤامرة. ومع وسائل التواصل، فإن الانتشار الواسع صار مؤكداً. ففي فرنسا، تشير استطلاعات الرأي إلى أن 17 في المئة من الناس يعتبرون بأن فيروس كوفيد 19 قد تم إنتاجه في مخبر صيني بشكل يقصد فيه الإساءة للبشرية. في حين أن 9 في المئة يعتقدون بأنه أنتج في المخابر فعلاً لغايات علمية ولكن انتشاره وقع عن طريق الخطأ البشري انطلاقاً منها. لقد تعزّزت هذه النظرة "المشوهة" بالاستناد إلى جزء من التطور الفعلي لعملية انتشار الخبر، وتتعلق بسوء إدارة الدولة الصينية فعلاً لعملية الإعلان عن انتشار الوباء وكيفية إدارتها للأسابيع الأولى من ظهوره.

وفي العودة للشريط التسجيلي، فغالبية من تحدث فيه من خبراء وعلماء، لم يكونوا على علم بهدف المنتج الأخير كما صرّحوا لاحقاً. فقد جرت مقاربة مداخلاتهم، من خلال عملية المونتاج المتقنة، بما يشبه تكراراً لا محدوداً لعبارة "لا تقربوا الصلاة..". وعندما تتقاطع ترددات هذه العبارة في شريط تكاد مدته تصل لثلاث ساعات، فمن المحتم بأن التأثير النهائي على عقول المتلقي محدود الثقافة والباحث عن أجوبة سهلة لأسئلة معقدة والهارب من حتمية التفكير والتمحيص والاستنتاج، بأن لا تقربوا الصلاة.

تعاني الإنسانية من انتشار سريع لهذا الوباء ـ "نظرية المؤامرة" ـ بمساعدة التقنيات الحديثة بشكل فعال. فمن مسؤولية مجموعة صناعية / عسكرية / دينية / تآلفية على وقوع أحداث 11 أيلول سنة 2001 في نيويورك، إلى نظرية "الإحلال الكبير" التي اجترعها منظّرون يمينيون متطرفون في فرنسا للحديث عن مؤامرة كونية لإحلال السكان المسلمين مكان المسيحيين في أوروبا الغربية، وصولاً إلى وباء الكوفيد 19.

ومن المؤكد بأن تطور عقلية المؤامرة يتناسب طرداً مع نمو التطرف الفكري والسياسي على أشكاله وهيمنة الشعبوية في إدارة المشهد العام أو التأثير فيه.