icon
التغطية الحية

"الرومنتيكية".. فنّـانوها وأثرها على الفن التشكيلي الحديث

2022.11.10 | 08:56 دمشق

غرق
لوحة غرق الميدوزا (جيريكو)
+A
حجم الخط
-A

كثيرا ما نذكر أن الانطباعيين كانوا قد تمردوا على المدرسة الكلاسيكية الحديثة وقواعدها الصارمة فيما يتعلق بكيفية بناء اللوحة وكيف يجب أن تكون، إلا أنه في الحقيقة قد سبق ظهور الانطباعيين وما تلاهم من مدارس فنية فترة يمكن أن نسميها تمهيدية، ساد فيها الصراع بين الفنانين الرومنتيكيين وفناني ومنظري المدرسة الكلاسيكية الحديثة التي فرضت بالقوة قواعدها الصارمة مستعينة بالسياسيين ونفوذهم.

كانت الكلاسيكية الجديدة تفرض قيودا على الفنانين المبدعين ليس فقط فيما يتعلق بالكيفية التي تتم بها عملية بناء العمل الفني وإنما أيضا فيما يتعلق بالموضوع الذي يناقشه هذا العمل والمراد تصويره، فيجب أن لا يتنافى مع القيم والمثل العليا واللياقة والوقار وما إلى هنالك، بحيث كان الفنان يشعر بضيق شديد من محدودية خياراته وخاصة فيما يتعلق بإظهار انفعالاته وأحاسيسه الشخصية تجاه الموضوع المراد تمثيله في العمل الفني. فقد كان مفكرو الكلاسيكية الجديدة ينظرون إلى الانفعال على أنه ذاتيا وسمة شخصية يتميز بها الفرد وحده وكانوا يدعون إلى فن مستمد من التجربة الجماعية تتمثل في نتاجاته "المثل العليا" للمجتمع وتناقش الموضوعات الإرشادية والأفكار اللائقة من وجهة نظرهم بالطبع، فهي ترى أن على الفنان أن يسير وفق نهج الفن في العصور اليونانية والرومانية القديمة.

خوراس
لوحة قسم الإخوة هوراس للفنان جاك لويس دافيد رائد الكلاسيكية الجديدة

في هذا العمل الذي يروي قصة الإخوة الذين أقسموا على الموت دفاعا عن مدينتهم ولو كلف الأمر قتل إخوة زوجاتهم الذين كانوا من أهل المدينة المعادية، نلاحظ إظهار الإخوة الملتزمين بالمبادئ والمثل العليا بشكل صلب وبارز وقوي، أما الزوجات اللائي ينتظرهن واقع مؤلم فقد رسمهم دافيد في لوحته فقط لتعظيم المبدأ الذي يريد ترسيخه من خلال العمل، فلا أهمية للعاطفة في مقابل الالتزام في المبادئ .

هذه اللوحة، وهي باكورة أعمال دافيد، تعتبر أنموذجا واضحا لطريقة التفكير والمبادئ التي قامت عليها الكلاسيكية الجديدة.

وعندما طبقت هذه المبادئ على أرض الواقع وأصبحت مقننة في الأكاديميات فقد أنتجت فنا يعاني من الفراغ العاطفي، فنا جامدا ومكررا في الشكل والأسلوب ويفتقر إلى الحيوية والتلقائية.

وهكذا نستطيع أن نفهم ما كان يعاني منه الرومنتيكيون والقوة الدافقة التي سيطرت عليهم في ذلك الوقت، فقد ملَو الخواء العاطفي الذي تفرضه عليهم الكلاسيكية الجديدة، أرادوا أن يطلقوا العنان لأرواحهم وعواطفهم دون قيد أو شرط، فبنظرهم لا يكون الفنان فنانا ولا يكون مبدعا إلا إذا كان صادقا وحرا وتلقائيا، فقد قال الفنان كورو:

"ليكن إحساسك هو مرشدك الوحيد... سر على هدى ما تقتنع به، خير لك ألا تكون شيئا على الإطلاق من أن تكون صدى لفنانين آخرين... إذا كنت قد تأثرت بحق فسوف تنقل إلى الآخرين إنفعالك الصادق".

من خلال هذه المقولة نستطيع أن نستشف الأفكار الرئيسة للحركة الرومنتيكية (الرومانسية/ الإبداعية) في الفن التشكيلي وهي أن الفنان يجب أن يكون خاضعا لتأثير الانفعال، وأنه يكشف عن شخصيته الفردية، وأنه يجب عليه أن يكون مخلصا.

وقد تغلغلت هذه الأفكار في طريقة تفكير الفنانين وغير الفنانين، بل لقد كان هذا الفهم وما زال عاملا حاسما في تذوق العمل الفني لدى الكثير من الناس، فكثيرا ما نمتدح عملا فنيا بقولنا إنه "مؤثر" أو "معبر" أو " فيه الكثير من الإحساس" وبالمقابل نرفض عملا فنيا بقولنا إنه "جامد" أو "يتركنا دون أن ننفعل".

وعليه فإن الحركة الرومنتيكية كانت بمثابة مواجهة بين العقلانية وجموح العاطفة، بين الجمود والعفوية، بين التكلَف والتلقائية. وقد نتجت عن تلك الحركة أعمال فنية غاية في الروعة ليس فقط في الفن التشكيلي وإنما في جميع الفنون الأخرى كالموسيقى والشعر والمسرح...إلخ.

ثيودور جيريكو.. رائد الرومنتيكية

ومن أبرز رواد الحركة  الفنان الرائع (ثيودور جيريكو) الذي يعدّ مؤسس  الحركة الرومنتيكية. حيث كان أول من تمرد على الكلاسيكية الحديثة. ويتميز أسلوبه بالمبالغة بالتعبير عن الواقع وذلك لإبراز الحالة العاطفية. ومن أبرز أعماله وأشهرها لوحة "غرق السفينة ميدوزا"، فعندما عاد جيريكو من روما إلى باريس عام 1818 كانت قصة غرق تلك السفينة مثار حديث الناس، حيث أن بعض البحارة الناجين كانوا قد استطاعو بناء طوف من أخشاب السفينة الغارقة ولكن لم تدركهم النجدة إلا في وقت متأخر بعد أن لقي الكثير منهم حتفه أو جن من هول الموقف.

جيريكو
جيريكو (1791- 1824)

أراد جيريكو أن يخلد ذكرى هؤلاء المساكين، فطلب من النجار الذي كان مع البحارة الناجين إعادة صنع الطوف، وعمد إلى جثث الغرقى فأرقدها على الطوف بنفس الكيفية التي كانو عليها حسب وصف الناجين وقام بإعادة تمثيل الواقعة من خلال رسم وإبداع لوحته الشهيرة بكل ما فيها من ألم ومعاناة ومرارة الموت الوشيك.

لوحة
لوحة غرق الميدوزا للفنان ثيودور جيريكو

وعندما تم عرض اللوحة نالت إعجاب الجمهور بالعموم على عكس النقاد الذين اعترضو عليها بحجة أنها لا تتماشى مع معايير وقواعد الفن الكلاسيكي. وتعتبر هذه اللوحة باكورة الفن الرومنتيكي في العصر الحديث.

أوجين ديلاكروا.. زعيم الرومنتيكية

ومن الجدير بالذكر أيضا أن الفنان العالمي (أوجين ديلاكروا) من أهم الفنانين الرمانتيكيين فإذا كان جيريكو هو الرائد الأول فإن ديلاكروا يعتبر من قبل الكثيرين زعيم الفن الرومنتيكي فقد تأثر بأعمال جيريكو وكونستابل الفنان الإنكليزي الذي كان من الثائرين أيضا على المدرسة الكلاسيكية الحديثة.

ديلاكروا
ديلاكروا (1798- 1863)

كان ديلاكروا يستوحي أعماله من شعر بايرون أو من قصص التاريخ، وكانت لوحاته مثيرة نابضة بالحركة غنية بالألوان ومفعمة بالعاطفة. ومن أشهر أعماله "مذبحة ساقز" و"نساء جزائريات" و"موت السردنابال"، وعن هذه الأخيرة فإنها تروي قصة شخصية آشورية وهو الملك سردنابال حيث يحكى أنه بلغ منه من الإهمال واللامبالاة بالأعداء حد وصولهم إلى قاعات قصره وهو غارق في التلذذ بالشرب هادئا مطمئنا على حسب الرواية.

سردنابال
لوحة موت سردنابال للفنان يوجين ديلاكروا

وهكذا نرى أن الرومنتيكين كانو يسعون إلى اعادة الحيوية والتلقائية إلى الفن، وقد تميزت أعمالهم على عكس الكلاسيكيين الجدد بالانفعالية والحرارة الشديدة. ولشدة رغبتهم بإطلاق العنان لانفعالاتهم الخلاقة، فقد رفضوا أن تفرض عليهم أي حدود على الموضوعات التي يتناولونها في موضوعاتهم دون اكتراث لرأي النقاد المتزمتين. فكان الشغل الشاغل للفنان هو أن يعبر عن مشاعره وأحاسيسه الشخصية تجاه الموضوع المراد تمثيله بالعمل الفني مهما كانت فردية أو شاذة بنظر غيرهم.

وعن الرومنتيكيين قال ألفرد ستيفنز الناقد المعروف في كتابه (انطباعات عن التصوير): "كل الأفكار الخيالية وكل سورات المخ مباحة للعبقرية".

مهدت الحركة الرومنتيكية الطريق لكسر القواعد والتجريب، فعندما تتضح عدم كفاية الأشكال والأساليب الفنية التقليدية في التعبير عن الذات فلا بد من الالتجاء إلى التجديد. ومن هنا كان القرن التاسع عشر حافلا بالأشكال والوسائل الفنية الجديدة وفيه ظهر كم هائل من الأساليب الشخصية والفردية لفنانين كبار أثبتوا أن الخروج عن المألوف هو ما يكون الطريق الوحيد إلى الإبداع.