icon
التغطية الحية

الروائية مي جليلي: الرقيب يجلس على كتفي خلال الكتابة

2023.07.22 | 16:19 دمشق

آخر تحديث: 22.07.2023 | 16:19 دمشق

بال
(اللوحة: صمويل بالمر)
+A
حجم الخط
-A

خلال قراءتي رواية "جلد الثور" للكاتبة والروائية الفلسطينية- السورية مي جليلي، حاولتُ مراراً التعرف إلى بطل تلك الرواية (شاهين الخيّال) من خلال شخصيات أخرى واقعية صادفتها مراراً خلال حياتي. فالمحرّك الأساسي لهذه الشخصية هو "الانتقام"، إذ انتقم "الخيّال" من كل الذين آذوه و جرحوا مشاعره وأذلوه. لكن، ما هي طريقته في الانتقام؟ هذا ما سنمرّ عليه لاحقاً.

رافق الراوي شاهين خلال مراحل عمره، حيث سينتبه حين كان يدرس في الصف التاسع بأن والده قد جمع ثيابه وكتبه ومن بينها دفتر خواطره في صحن الدار وأشعل فيها النار، عقاباً له، ولم يتمكن من إنقاذ حتى الدفتر الغالي جداً على قلبه. كما رافقه وهو يدبر مكيدة كبرى ليسرق المال من (أبو جهاد)، الدمشقي الفلاح الذي باع بيتاً بملايين الليرات. ومن هذا المبلغ يبدأ سيرته في جمع المال والانتقال من عاصمة إلى أخرى متنقلاً بين صفقات تجارية مشبوهة تجعله يتعرف إلى الكثير من الشخصيات العامة في الدولة والمجتمع.

عن الرواية وغيرها من أعمال، كان هذا الحوار مع الروائية مي جليلي التي تعيش اليوم في هولندا.

  • أبدأ من روايتك الأخيرة (جلد الثور)، وتحديداً عن شخصية (جمان)، من هي؟

"جمان" هي الشخصية الأقوى بالرواية وربما استولت على ثلثها، فقد دخلت حياة شاهين بطل الرواية من أول الطريق. لا يمكن أن تكون جمان إلا من الواقع، ولكن الواقع دائما كاسر عنيف لسياق الرواية، ولا يقدم ذاته بكرم وسخاء إلى روابط ومفاصل الرواية المعقدة، الواقع هو الدرجة الواطئة التي يقف عليها الكاتب قبل أن يتصاعد إلى العمل الروائي. بعد ذلك، تأتي مقدرته في الارتقاء إلى باقي درجات السلم.

الواقع يخبو أمام وهج الرواية وإلا كانت الحكايات على الطرقات. جمان هي عدة نساء في واحدة، هكذا هي جمان فتحت نافذة عريضة في الرواية ليدخل طيفها، ويصول ويجول فوق جلد الثور، ولكن واقعها الحقيقي غادر من أول الحكاية، وحقا أنا قابلتها في رحلة من اللاذقية إلى دمشق، أربع ساعات وهي تتكلم، وأنا تركتها على سجيتها تحدثني عن حياتها الصاخبة لبنت لم تتجاوز العشرين عاما، لكنها سقطت ونهضت في أشكال وألوان من حفر الحياة، قلت لها ماذا فعلت يا جمان بعد البكلوريا؟ قالت لي بوجهها البريء الساذج:  فعلت كل شيء... كل ما يخطر على بالك. لم أتوقع جوابها.

ثور

نزلنا في محطة باصات العباسيين، رأيت عن بعد رجلا كالعقرب ينتظرها. ركبت سيارته واختفت. كنت سأقول ليتني أستطيع أن أكون أما لك أيتها اليتيمة المسكينة التي ستذهب إلى غابة اللاحمين. لكنها خطفت حقيبتها ومضت تقفز على الرصيف المقابل، وأنا لم أكن على يقين بأنني أرغب في ذلك ولا تجرأت على التبني. بعد أن وصلت إلى البيت فتحت (اللابتوب) وكتبت برأس الصفحة: جمان هذا ما أستطيع فعله الآن. وظل الطيف حاضرا قويا في ضميري وروايتي. وسطا على ربع الرواية بقوة، وربما بأكثر من ذلك. فلم يعد مهمّا إن كانت جمان من الواقع أم لا. لكني ندمت لعدم أخذها إلى بيتي لتكون ابنتي ولأحميها من الدنيا. لم أكن متأكدة أنني أستطيع فعل ذلك.

  • تقنية الصوت وقدرة تقليد الأصوات النسائية كانت إحدى قدرات شاهين الخيال، التي استخدمها أيضاً للايقاع بكل من آذوه في حياته. من هو شاهين الخيال؟ ولماذا كان بطل الرواية بالنسبة لي؟

كنت في مقهى الكهف بحيّ (دمّر) أنا وست نساء من الطبقة الوسطى، أو أعلى بقليل. كانت الثورة في دمشق وراء الأبواب، ودار حديثنا بالكلمات المتقاطعة (بالترميز) عن حدث قادم إلى سوريا سيقلب الدنيا، ويغيّر النظام ويأتي بعالم آخر لم يعرف له الشعب السوري مثيلا.  بين الخوف والقلق والأمل كنا نتهامس بالرموز، لكننا لم نكن على يقين أن هذا سيحدث في مملكة الرعب، كنتُ حينها خارجة لتوّي من تحت عباءة روايتي "براري النرجس" التي خرجت من المطبعة ونزلت عن أكتافي، وقدمت نسخا من الرواية لصديقاتي.

انضمّ إلينا  شاب وسيم وغارق في الأناقة من رأسه حتى حذائه، صافحنا باليد وجلس بيني وبين صديقته التي عرّفته بـ "رجل الأعمال عز الدين"، وكنت قد بدأت أختنق من رائحة عطره الثقيلة، غيّرت مكاني وجلست قبالته حيث لم ينتبه لي أبداً. بعد قليل، شيء ما جعلني أحدق في وجهه وأراقب حركاته الأنثوية، وأتأمل أصابعه الناعمة وأظافره المقلّمة وخواتمه الفضية والسنسال الذي يتدلى بين شعيرات صدره. لم أضحك على نكاته السمجة، ولكني فتحت عيناي جيدا حين قالت صديقته: "عز الدين موهوب ويستطيع تقليد أي صوت يسمعه وخصوصا صوت الأنثى".

 كانت الشرارة الأولى التي لمعت في باب النفق والدخول في رواية "جلد الثور". انتبهت لحظتها إلى تفاهة ومغامرات المخلوق المركب الجالس أمامي. كتبت على جوالي كي لا أنسى: "عز الدين هو شاهين الخيال" الشخصية الملتبسة مقلّد الأصوات الذي يستطيع بليونة أن تنسج حوله رواية كاملة متكاملة من الخديعة والفساد.

  • ذات يوم كتبت مجموعة قصصية واحدة ثم انتقلت بعدها إلى لرواية. هل الرواية حقاً هي الأقدر على البقاء إبداعياً؟ ولماذا لم تعودي إلى كتابة القصة؟

لم أهجر القصة القصيرة، بل كتبت عشرات القصص، وذلك حين حطّ رحالي في هولندا. وكانت القصة هي وسيلتي للتواصل الاجتماعي، ولكن تبقى الرواية الأقرب إلى روحي والأكثر قدرة على تجسيد طبيعتي في السرد. أنا حكّاءة من الدرجة المتعبة، لا أنتهي عند حد، حتى حين أكتب القصة القصيرة تظل مشرعة للريح، وتبحر في عالم لا نهاية له، ولكن كما أشرت تماما؛ الرواية هي الأقدر على البقاء إبداعيا، وأضيف: هي صاحبة الجلالة، ملكة على عرش الأجناس الأدبية. ربما هناك من يقول هذا ليس صحيحا، لكنه رأيي الذي سأتمسّك به إلى النهاية. وأضيف: هناك روايات تركت بصماتها في التاريخ البشري.

  • ما رأيك في مسمّيات "رواية سورية" أو "فلسطينية"؟ وهل تصنّفين نفسك ضمن كاتبات الرواية الفلسطينية؟

لا أصنف نفسي أدبيا تحت أي قومية أو جنسية، سورية أو فلسطينة أو عربية، أنا كاتبة تكتب، ويقيني  أن  الكاتب في قلبه حلم كبير هو أن يقرأه العالم كله، وأظنّ أن الكاتب لا بد أن يحمل قضيتة في عمق عمله الأدبي، ونحن كتاب سوريا وفلسطين قضيتنا ومصابنا فاق حد الخيال والتصور، مصابنا تجاوز ما كتب وما قيل. هذا ما يمكن أن يضاف إلى رسالتنا في الكتابة.

  • المخيم يا مي، وأنت الفلسطينية المتنقلة من مخيم إلى مخيم ومن مكان إلى آخر؛ كيف تراقبين هذه الكلمة وماذا تعني لك اليوم؟

صار المخيم بعيداً عن جذر الكتابة، لم تعد الروابط كما كانت بين الكاتب الفلسطيني والمخيم. وعلى سيرة المخيم، دمر النظام السوري مخيم اليرموك، وانتشرت مخيمات جديدة واقتلع الناس في بلادهم من بيوتهم، حتى مفهوم المخيم تغير، وصار له حكاية بؤس جديدة. تفتت رمزية المخيم الفلسطيني، وتلون وتعدد اللجوء باشكال مختلفة.

  • كيف تطلقين الأسماء على شخصيات رواياتك؟ لماذا أطلقت على بطل رواية جلد الثور اسم شاهين مثلاً؟

للإسم في الرواية فلسفته الخاصة، لا أعرف كيف يقنعني الاسم فأرضاه اسماً مناسبا للشخصية الرئيسية في الرواية، ربما "شاهين" طير جارح ينقض على فرائسه بلا رحمة، شخصية (مايا) قريبة من اسمي وأنا حمّلتها بعض أفكاري. جمان، ليس له مدلول بالواقع ولكن وقع الاسم ناسب صيرورة الرواية، وتناغم مع السياق، هناك أسماء كثيرة في رواية جلد الثور، ربما عززت دور الشخصية تماما صاحب فرقة الرقص (فهد الدمري)، أو (أبو جهاد الكفرسوساني) الذي وقع صيدا ثمينا بين مخالب شاهين، (القوادة أم غزال)، وغيرها من الشخصيات التي لعبت دورا صغيرا أو دورا مؤثرا في مجريات أحداث الرواية.

نرجس
  • هل ثمة مشروع روائي جديد؟

"جسر إزمير" رواية منجزة، وأبحث حالياً عن دار للنشر كي أطبعها، إنها جاهزة ومتخمة بقصص لجوئي الثاني بعد لجوء أهلي من فلسطين.

  بدأت في كتابة رواية جسر إزمير  من ساعة  خروجي من باب بيتي في صحنايا إلى أن وصلت إلى هولندا. رواية كتبتها على مقاطع، ومواقف، بداية ببشاعة الحرب ورعب الطريق وأهوال مراكب الموت، حتى تجاوزت بحر اليونان، ثم بقية طرقات التهريب. جسر إزمير أنجزتها هنا في هولندا، ولكن جلد الثور حملتها على (فلاشة)، كانت منجزة من دمشق وأتممتها وغيرتها وقلبت أفكارها وبعضا من أحداثها، في هولندا أيضا، فقد كان لدي متسعا من الوحشة والوحدة لأعمل على  خطين وروايتين.

  • هل مِن طقوس كتابة تخصّك وحدك ككاتبة؟

 لا طقوس لدي. حين تهبط أفكاري وتتغرغر في حلقي أبحث عن أي مكان كي أكتبها. كتبت مقاطع من رواية جسر إزمير في الباص الذاهب من هولندا إلى ألمانيا، كان الطريق طويلا وكنت أشعر بمتعة الكتابة وأنا وحيدة في  المقعد الأخير. حين تختمر الأفكار تنهال أمطار الرواية، ولا أتوقف إلا عندما تغبش عيني وأقع من التعب والسهر.

  • هل تشعرين بحرية رسم شخصياتك وموضوعاتها كما ترغبين خلال الكتابة، أم أنّ في داخلك خوفاً ما من الرقابة الاجتماعية بمختلف أشكالها؟

أشعر دائما بالرقيب يجلس فوق كتفي. في كثير من الأحيان أضربه بقتّالة الذباب، أو أرشّه بالماء البارد بما يناسب (برادة وجهه)، لكن الخوف والرقيب والحسابات أصبحت جزءاً من كلس كتفي، وأحياناً أكون أنا الرقيبة على نفسي إلى جانب الرقيب المعتدي.

 لا يروق لي الإسفاف، وخصوصا في الجنس وتوابعه، وكثيرا ما أتجنب الخوض بالتفاصيل. ولكن بقي عندي هدف واحد أسعى إليه وهو تحطيم جدران السياسة والأعراف الاجتماعية البالية والمتخلّفة بكل أشكالها، وسوف أفعل.

انت
كلمات مفتاحية