الرجل البخاخ يظهر في ألمانيا أيضا

2023.08.12 | 06:18 دمشق

الرجل البخاخ يظهر في ألمانيا أيضا
+A
حجم الخط
-A

هي حقيقة وليست عنوانا يشد على طريقة صحفنا السوقية المحترفة الترويج قبل عقدين أو أكثر، ولأنه لا صحافة تغطي هموم المهاجرين في مجتمع غربي يعمل كآلة ضخمة؛ تبتلع من يخرج عن نظامها الآلي البيروقراطي، ولأن صحف الغرب تعيش حالة شعبوية لم تخرج من نمطيتها القديمة، صار لزاما أن تكون منابرنا قناة وأفقا لكشف الكثير من المكبوت أو المعاناة التي يتعرض لها اللاجئ، ولعلها تكون فاتحة قراءة مغايرة للغرب خارج رؤية الذهول بمنجزاته.

قد يقول قائل في خضم التهجير والقتل في سوريا، والتضييق الذي يعانيه السوريون في البلدان المجاورة "أن معيشة أوروبا نعمة فلتحافظوا عليها ولتصمتوا"، ننطلق من هذه المقولة باعتبارها ثيمة مركزية تشكل بؤرة النظرة المحكومة بعبء المقارنة؛ التي يعقدها الجيل المُهَجّر والمنفي، إذ يخضع للحياة الجديدة وذهنياتها وقيودها وانفلاتاتها أيضا؛ لمجرد رجحان كفتها بميزان تشغل صورة أوطاننا المدماة والمتهتكة كفَّته الأخرى، تلك مقولة مهمة تصور القبول الاضطراري واحتفاء المقهور أو المشرد بعالم خارج مساحات المطاردة والتشريد، وهو القبول بالراهن لأنه أفضل الموجود. وقد يكون ذلك مناقضا للرؤية الأوروبية المعلنة عن الدولة وحقوقها ومواطنيها؛ تلك التي يراد للاجئ التسليم بها، للوصول إلى درجة المواطنة المتساوية مع الآخرين من تلك البلاد، غير أن شعور المواطنة المفترض مبني -والحال هذه- ومؤسس على الشعور بالامتنان والانحناء لقوانين الآخر بما أنك في بلده، في حين يناقض ذلك مفهوم المواطنة في أصله؛ فالدولة خادمة الفرد إدرايا وخدميا في المستوى النظري والقانوني، وفي الكتابات والآداب الأوروبية عن الدولة ومواطنيها وحقوقهم؛  ولكن السؤال: هل يحق لنا أن نفرض ذلك على أطفالنا الذين ترعرعوا هنا بعيدا عن أوطان آبائهم وعن وحشة المقارنات بين الـــ هنا والـــ هناك بين الــــ " الحاضر الأوروبي"  والـــ" الماضي الشرقي"؟ ، فالحاضر - الوطن الجديد درسوا فيه برفقة أبنائه ولغته ومقاييسه ظانين بيقين أنها بلدانهم وأرض رفاقهم من شتى الجنسيات والأمم،  والماضي - البلد الأم لم يعايشوه بل سمعوا به في قصص الآباء وذكرياتهم، وبين مفاصل هذا الموقف عتبة الافتراق المرهقة؛ حين ينبذهم الحاضر الأوروبي عبر ممارسات تذكرهم بأنهم غرباء بأسمائهم بألوانهم بأديانهم، تلك العتبة التي ربما لن تشعر بها أوروبا وحكوماتها إلا إذا عانت من حوادث عنف يرتكبها أبناء المشرق وهي إرهابية حكما كما اعتدنا في التصور الغربي -صحفه وسياسييه وشتى وسائل إعلامه، تلك الوسائل نفسها التي بحثت ونقبت في الوضع النفسي لكل مراحل حياة مجرم ارتكب جرم إرهاب جماعي من أبناء الغرب الأصليين، في حين أنها لم ترَ فيمن ارتكبوا جرائم إرهاب من المسلمين سوى دين الفاعل ولو كان سكيرا أو معتوها وتمت تعمية وضعه النفسي وصحته العقلية عن العالم أجمع.

صفاء فتاة سورية محجبة تحدثت عن عنصرية ثلاث من معلمات المدرسة ومعاناتها منهن، وعند تقدمها بشكوى لإدارة المدرسة؛ رفضت الإدارة طلب الشكوى باعتبار أن ذلك يسيء لسمعة المدرسة

تمثل ألمانيا الصورة الأنصع لأوروبا في مستوى تعاملها مع اللاجئين وموقفها من الإسلام، وفي مدرسة ببلدة متوسطة الحجم فيها، وحائزة على تقييم اعتباري بمستوى تعليمها وبطاقم تدريسها وإدارتها اللاعنصرية، وطبعت على جدرانها شعارات اللّاعنصرية، ما لبث طلابها القادمون إلى دوامهم قبل أسبوعين من عطلة الصيف أن وجدوا جدرانها ذات صباح مطلية ببخاخ ملون شطب كلمة "لا" السابقة لكلمة "للعنصرية" وأبقى على العنصرية في رمز إلى عنصرية المدرسة، وعند سؤال بعض الطلاب كان ما يلي: صفاء فتاة سورية محجبة تحدثت عن عنصرية ثلاث من معلمات المدرسة ومعاناتها منهن، وعند تقدمها بشكوى لإدارة المدرسة؛ رفضت الإدارة طلب الشكوى باعتبار أن ذلك يسيء لسمعة المدرسة، كما أن المدرسة نفسها شهدت حدثا آخر من قبل طلاب أحداث؛ تم فيه حرق وتخريب غرفة طرفية مخصصة كمطبخ للمدرسة اعتراضا على عنصرية بعض معلميها، فيما بعد كُلِّفت صفاء بحلقة بحثية تختارها لنيل شهادة الثانوية، فأنجزت حلقة تنتقد فيها قرار الحكومة الألمانية بحق رب العمل أن يرفض المتقدمة لطلب العمل بسبب حجابها وحقه في إعلان هذا السبب بوضوح، في حين كان ذلك مرفوضا سابقا حاول المعلم رفضها وبعد إصرارها أعطاها أخفض علامة في الفصل بين أترابها. 

أما لامار فقالت بأن المعلمة تحدثت  بشزر عن العرب والحجاب وتطرقت إلى رفض قطر رفع شعار الشواذ، فردت الطفلة لامار بأن الذاهب إلى بلد عليه احترام قوانينه مثلما فرضتم علينا احترام قوانينكم، فما كان من المعلمة إلا أن اتخذت موقفا من تلك الطفلة ذات ال 14 عاما وترصدت لها طوال سنة دراسية كاملة.

ملاك طفل من أب سوري يعمل طبيبا وأم أوكرانية: يتقن الألمانية والروسية جيدا، عندما تحدث باللغة الأوكرانية مرة ظنته المعلمة أوكرانياً فتحدثت بعنصرية تجاه الإسلام والحجاب والعرب. قد يقول قائل من المهاجرين علينا ألا ندقق كثيرا فمثل هذا يحدث يوميا، لكن السؤال إذا كان إغفال حالات التمييز العنصري مبررا لنا كجيل آباء قارنوا بين ماض هناك وحاضر هنا؛ فهل على الأبناء الذين لم يشهدوا سوى الحاضر الذي وسم حياتهم واندماجهم العفوي هنا في المهجر أن يتجاوزوا ذلك؟ وماذا ستخلف تلك الممارسات في نفوسهم ومستقبلهم؟

رغم كوننا في الغرب ميدان العمل الجماعي  ، لكن غلبة الإحساس باللاجدوى لدى المهاجرين وهي المشتقة من حياتهم في البلد الأم قد ورثها أبناء فاقدون لفحوى العمل الجماعي وصاروا شتاتا

عندما يخبو هذا الذهول لدى الآباء و ينشأ جيل الأبناء المفرغين من بعد المواطنة وشعوره؛ وتعصف بالجيل رياح الانفصال عن المجتمع قبالة هذا التمييز بناء على الأسماء والدين ولون البشرة، سيبحث الكثيرون مهما قلت نسبتهم عما يفصلهم عن هذا الواقع، ولا غرابة في ردة فعل انتكاسية؛ وظهور من يلتزم بهوية مشرقية أو عربية وأخرى إسلامية قد تجد نفسها متشنجة ومعزولة وتنحو باتجاه أعمال إرهابية، ولعل كاتبا عربيا قال ذات يوم حول حادثة "شارلي إبدو" بأنه ليس على المسلمين أن يشعروا بالذنب فالمنفذون كانوا فرنسيين بالولادة، وعجزت فرنسا التي صدرت القيم الجمهورية للعالم أن تحتوي أبنائها وتمنع وصولهم للشعور بالعزلة والردود المتشددة، ولعل هذا السرد يفتح أكثر من باب على أسئلة كثيرة؛ حول مسؤولية مراكز دراسات بحثية وجاليات ومثقفين وكتاب في تصويب الصورة النمطية -إن وجدت رغبة في تصويبها، بل وفتح قنوات التواصل مع الهيئات الغربية لاتباع برامج تأهيل لأبنائها قبل مهاجرينا، لإنشاء جسر بين عالمين لا بد أن يتشاركا، وفتح باب الحوار والتباحث في  ضرورة تكامل المؤسسات في كل بلد، وتنسيق توجهاتها وبرامجها للقفز على تلك الفجوات بين نظام دولة يحترم رعاياه، وبين دوائر تغط في البيروقراطية؛ مع جهل المهاجرين آليات التقاضي والشكاوي بين موظف دائرة  عنصري ورب عمل متشنج، وطالب حاجة لا يدرك سبل الحل. ورغم كوننا في الغرب ميدان العمل الجماعي  ، لكن غلبة الإحساس باللاجدوى لدى المهاجرين وهي المشتقة من حياتهم في البلد الأم قد ورثها أبناء فاقدون لفحوى العمل الجماعي وصاروا شتاتا، ما يحيل إلى ضرورة إيجاد برنامج عمل تحمل عبأه نخبة ملتزمة بقضايا اللجوء جماعات وأفرادا.