الرئيس سليماني قتيلاً

2020.01.17 | 17:18 دمشق

slideshow2.jpg
+A
حجم الخط
-A

بداية لا بد من الإشارة إلى أن هذا المقال تأخر ست سنوات تقريباً، عندما حضرت إلى تركيا وأثناء التحضير لإصدار نشرة المشهد التركي الإلكترونية -2014- والنقاش مع الزملاء حول الثورات والتطورات في بلادنا العربية كنت أسهب في الحديث عن قاسم سليماني ودوره الشيطاني وقيادته السياسة الإيرانية الخبيثة لإجهاض الثورات، وتكريس الهيمنة أو الإمبراطورية الفارسية. آنذاك لم يكن اسمه يتردد كثيراً في الساحة السياسية والإعلامية، ففكرت بتشجيع من الزملاء في كتابة مقال بعنوان الرئيس سليماني، إلا أن الانشغال بتفاصيل العمل التحريري اليومي، ثم شهرته وتدفق التقارير والمقالات عنه حالا دون ذلك، غير أن اغتياله مطلع الشهر الجاري أعاد الأهمية للمقال من جديد، خاصة مع الطريقة المهينة للاغتيال وتداعياته، والفراغ الكبير الذي تركه في ضوء الصورة الباهتة لخلفه شكلاً ومضموناً، ثم محاولة إسباغ الشهادة وحتى القداسة عليه، رغم مسؤوليته المباشرة عن ارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، والخراب الذي رافقه حيثما حلّ.

بعد إعادة انتخاب أحمدي نجاد 2009 بات سليماني ممسكاً بملفات المنطقة المهمة والمتعددة من أفغانستان إلى لبنان وفلسطين، مروراً بالعراق ثم سوريا

بدأ نفوذ وحضور قاسم سليماني كقائد لفيلق القدس بالحرس الثوري في نهاية التسعينيات من القرن الماضي، ثم تصاعد مع وصول أحمدي نجاد للسلطة في انتخابات 2005 الرئاسية، التي هزم فيها أحد مؤسسي الجمهورية الثعلب هاشمي رفسنجاني.

بنظرة إلى الوراء لا يمكن استبعاد فكرة أنها زورت، كما جرى في العام 2009، في الحالتين يمكن توقع دور مركزي لسليماني الذي بات ممسكاً بمفاصل السلطة الرئيسية منذ إيصاله أحمدي نجاد للرئاسة، ثم إبقائه عنوة بعد تزوير الانتخابات التي حقق فيها مرشح المعارضة مير حسين موسوي نصراً ساحقاً.

كان نفوذ سليماني عند صعوده ذا طابع أمني بحت، حيث شمل أساساً، لبنان وفلسطين، لكن بعد استشهاد الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي د. فتحي الشقاقي – مالطا 1995 - الذي خاض معارك طاحنة كنت شخصياً شاهداً عليها ضد سعي الحرس الثوري وفيلق القدس وسليماني للتدخل والهيمنة فلسطينياً لدرجة السعي لشق حركة الجهاد، وتحريض بعض أعضائها لتشكيل فصيل آخر وُلد ميتاً سموه، بل سماه سليماني حزب الله - فلسطين في سابقة لم تحدث من قبل لجهة أن تسعى دولة لشق حركة تدعمها وعلى علاقة جيدة معها أصلاً.

في هذه الفترة كان سليماني مسؤول مباشرة عن تفجير الخُبر في السعودية 1996، الذي أوقع قتلى أمريكيين وسعوديين، وتجاوزته المصالحة التي رعاها الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز والرئيس الراحل هاشمي رفسنجاني إثر تبنيه سياسة الانفتاح تجاه الجوار العربي - الإسلامي، بعد انتهاء حرب الخليج الأولى، السياسة التي هيَّأت ضمن أسباب أخرى الطريق أمام محمد خاتمي لتحقيق نصره الساحق في العام 1997.

أما أول مهمة فعلية ذات طابع سياسي وأمني قام بها سليماني فكانت في أفغانستان 2001، حيث خاض حوارات سرية وموسعة في جنيف مع وفد أمريكي ترأسه السفير رايان كروكر، قدم خلالها رسل سليماني معلومات وخرائط تفصيلية لمساعدة أمريكاعلى غزو البلد المسلم للتخلص من نظام طالبان، الخصم الإقليمي الشرس لإيران.

أمر مماثل فعله سليماني مع غزو أمريكا للعراق 2003 عبر دفع الميليشيات الشيعية للتعاون مع الغزو والانخراط في البيئة السياسية المؤسساتية التي خلقها الاحتلال، والتماهي عن سبق إصرار وتعمد مع تفكير المحافظين الجدد بالتحالف أو التفاهم مع إيران والأقليات في المنطقة.

في هذا الصدد كان لافتاً وصحيحاً ما نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال" الأحد 5 كانون الثاني عن تعاون سليماني مع قوات الاحتلال الأمريكي، وهبوط طائرته علناً في مطار بغداد، وعلى نفس المدرّج الذي كانت تهبط فيه طائرة قائد القوات الخاصة الأمريكية الجنرال توني توماس.

بعد إعادة انتخاب أحمدي نجاد 2009 بات سليماني ممسكاً بملفات المنطقة المهمة والمتعددة من أفغانستان إلى لبنان وفلسطين، مروراً بالعراق ثم سوريا وتحول ليس إلى وزير خارجية إنما إلى الرئيس الفعلي للبلاد. ومن هنا جاءت فكرة مقال الرئيس سليماني، ومع العقوبات الأمريكية والدولية الصارمة ضد إيران على خلفية مشروعها النووي، وابتداع مصطلح الاقتصاد المقاوم. أمسك سليماني والحرس بالملف الاقتصادي أيضاً. وخلال هذه الفترة خسرت إيران تريليون دولار تقريباً، بينما تبخرت 200 مليار دولار من عوائد تهريب النفط وبيعه في السوق السوداء.

كان لافتاً كذلك خلال سنوات ما بعد الغزو الأمريكي للعراق قبول سليماني بدور الشريك الصغير للاحتلال، الأمر الذي تكرّس في الاتفاقية الأمنية 2008، والانسحاب الأمريكي 2011، أو إعادة الانتشار بالأحرى مع هيمنة واشنطن على ثروات البلاد، بينما بدت طهران وكأنها مسؤولة عن الحكم الذاتي الذي أداره أدوات وعملاء لها تحت وصاية الاحتلال الأمريكي.

سليماني شارك بعد ذلك ولو بشكل غير رسمي في التحالف الأمريكي للحرب ضد داعش2014، بل تحول وحشده الشعبي إلى الذراع البري – الرخيص – للتحالف في العراق تماماً، كما هو الحال مع بي كا كا في سوريا وعبّر شخصياً عن هذا الواقع بمقولته الشهيرة السماء للأمريكيين والأرض لنا.

مع اندلاع الثورة السورية أدار سليماني مباشرة السياسة الإيرانية التي هدفت إلى إفشالها، وحماية نظام بشار الأسد من السقوط، ومع فشل قبضة النظام وجرائمه في تحقيق ذلك، دفع سليماني بذراعه الإقليمي المركزي أي حزب الله للانخراط مع النظام ضد الثورة بذرائع متعددة تراوحت بين الدفاع عن القرى الحدودية والمقامات الشيعية، إلى محاربة داعش، ثم جند ميلشيات طائفية أخرى عراقية أفغانية وباكستانية للقتال إلى جانب النظام بقيادة مباشرة من حرسه وفيلق القدس، وبعد فشلهم جميعاً في تحقيق المهمة سافر شخصياً إلى موسكو – أغسطس 2015 – حيث تولى إقناع أو إغراء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للتدخل مع الاستعداد للعمل كشريك صغير للاحتلال الروسي، كما هو الحال في العراق.

في اليمن فعل سليماني الشيء نفسه، لجهة دعم تحالف الحشد الحوثي وفلول النظام الساقط، وانقلابهم على الثورة ومخرجات الحوار الوطني. صحيح أنه استفاد من السياسات الخاطئة والموتورة للسعودية والإمارات، إلا أن ذلك لا يغير من حقيقة سياسة سليماني ودعمه للحوثيين كجزء من سياساته التوسعية القومية والطائفية الموتورة.

مع اندلاع الثورة السورية أدار سليماني مباشرة السياسة الإيرانية التي هدفت إلى إفشالها، وحماية نظام بشار الأسد من السقوط

في المجمل قاد سليماني مباشرة الاحتلال الإيراني لأربع عواصم عربية من أجل إقامة إمبراطورية الدم والوهم الفارسية التي عاصمتها بغداد. وهنا لا بد من ذكر واقعة تعبر عن حقيقة تفكيره الطائفي الموتور، وحتى أهدافه من سياساته الإقليمية. فأثناء مجزرة حلب – 2016 - أرسل رسالة إلى جواد ظريف يحذره فيها من مغبة التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار، قال له فيها حرفياً: "إن مسلم بن عقيل يجوس خيام معاوية بن أبي سفيان في الشام".

وبالنسبة لعلاقة سليماني وفيلقه بالقدس وفلسطين، فقد ضخمت عن عمد، هي عادية ومحدودة في أحسن الأحوال، وبعيداً عن التفاصيل - نتركها لمقال الأسبوع القادم إن شاء الله – فلا شيء يعبّر عن حقيقة العلاقة أكثر من التزامه التام بالتفاهمات الروسية - الإسرائيلية، والابتعاد مئة كيلومتر عن الحدود السورية مع فلسطين المحتلة، ثم الهزيمة والخضوع أمام مئات الغارات الإسرائيلية ضد أهداف ومواقع إيرانية في سوريا دون القدرة على الردّ أو حتى التفكير الجدي فيه.

عندما وقع الخلاف مع إدارة دونالد ترمب حول الملف النووي بعد التفاهم على الملف والمنطقة مع إدارة باراك أوباما السابقة رفض سليماني التصرف بواقعية وأسكرته العنجهية والغطرسة، وحاول كسر التفاهمات الضمنية وحتى العلنية، باستخدام أدواته العراقية ضد قواعد الاحتلال الأمريكي، ثم ضد السفارة الأمريكية نفسها في المنطقة الخضراء ببغداد فردت واشنطن بقوة ضد أدواته ثم قتلته شخصياً وبسهولة كبيرة في المدينة التي توهم أنها عاصمة للإمبراطورية الفارسية.

أما الرد الإيراني الهزيل على اغتيال الرئيس سليمانى الرجل الثاني بعد  المرشد علي خامنئى بل حتى الأول مكرر فقد طوي الملف برمته، وأكثر من ذلك فقد أكد قبول وخضوع طهران للمعادلة في العراق، ورضاها بدور المحتل الصغير، مع إصرار أمريكا على إضعافها وإعادتها إلى حجمها الطبيعي.

إلى ذلك وكما في أنظمة ومنظومات الاستبداد المركزية، لم يكن غريباً أن يأتي خليفة سليماني "إسماعيل قاآني" على هذا النحو، باهتاً دون حضور أو كاريزما، وبالتأكيد دون قدرة على مواصلة طريق سلفه التي باتت مأزومة ومحفوفة بالمخاطر.

في الأخير وعلى قاعدة الحق ما شهد به الأعداء، لخص رئيس تحرير صحيفة هآرتس ألوف بن- الأحد 5 كانون الثاني- قصة سليماني كلها من الصعود إلى القتل السهل والمهين، حيث كتب حرفياً "سليماني كان يترأس قوة صغيرة نسبياً، حظيت في العقد الأخير بحرية العمل طالما أنها كانت تخدم مصالح الولايات المتحدة، أو على الأقل لم تزعجها، لقد تعاون مع الولايات المتحدة لتحطيم العدو المشترك داعش، والأمريكيون سلموا بعملياته من أجل إنقاذ نظام بشار الأسد، وفي اللحظة التي توجه فيها مباشرة ضدهم فإن المقاول الثانوي تمت تصفيته".

 

كلمات مفتاحية