الديكتاتورية الوظيفية في المشرق وإسرائيل والاستعمار

2024.05.18 | 05:44 دمشق

sdrgrgrgrgrgrgrgrgrgrgrgrgrgrgs
+A
حجم الخط
-A

يتناسى بعضهم، قصدا، أن مشكلة السوريين الأولى التي انتفضوا بسببها في ثورة شعبية لا سابق لها في تاريخ سوريا ولا مثيل لها في التاريخ المعاصر إنما هي الديكتاتورية، فالشعب السوري مع الشعوب العربية الثائرة إنما انتفضت جميعها ضد أنظمة حكم عربية أوصلت الشعوب العربية إلى الخراب الشامل، اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا وقيميا.
وإذا ما فحصنا طبيعة هذه الأنظمة العربية الحاكمة فسوف نقف على قاسم مشترك يجمعها ألا وهو أنها كلها أنظمة ديكتاتورية على اختلاف أنماط الديكتاتورية وتعدد مستوياتها.
‏لذلك فمن البدهي أن يكون الحديث عن الديكتاتورية والاستبداد الموضوع الأساسي والمركزي لكل النقاشات السياسية والفكرية السياسية في سوريا ولدى النخب السورية والعربية، إذ إنه دون فتح نقاش حول مسألة الديكتاتورية واكتشاف أسبابها لن يتمكن الشعب السوري نخبا وجماهيرَ من تجاوز المرحلة الراهنة، ولاسيما أن مظاهر وممارسات الديكتاتورية والاستبدادية لم تبق حكرا على نظام الأسد، إنما تسربت إلى مؤسسات المعارضة سياسية وإغاثية وعسكرية وكذا إلى مؤسسات تربوية.

في شرق البلاد - الإدارة الذاتية-  وغربها- إمارة الجولاني- (مع فارق حجم ودرجة ونوعية الاستبداد والتسلط) ما يعني أن الاستبداد ليس مقتصراً على النظام السياسي الحاكم ولا على السلطة الأسدية التي تتحكم وتمارس تسلطها فأوصلت البلاد والعباد إلى الخراب الشامل، إنما الاستبداد نظام ذهني وسياسي وسلوكي عابر لكل قوى الأمر الواقع في سوريا، لذلك كان من الأوجه والأولى أن يُفتح هذا الملف النوعي الذي هو الأصل لكل شر وخراب أصاب ويصيب السوريين مجتمعا وأفرادا، إذ إن الاستبداد نال من سوريا فوسم مؤسسات الدولة وكذلك مؤسسات المعارضة.

كُتبت أبحاث عن الديكتاتورية في الشرق ومن ضمنها الديكتاتورية الأسدية، لكن قليلة هي الأبحاث التي ربطت بين هذه الديكتاتورية وبين القوى الدولية الأساسية أميركا وأوروبا، روسيا والصين، والإقليمية مثل إسرائيل، ‏فالديكتاتورية الأسدية -التي يمكن مد أصولها إلى الانقلاب الأول في المنطقة العربية الذي أعلنه حسني الزعيم سنة 1949 بدعم أميركي- وشقيقاتها الصدامية والقذافية وسواها هي الشكل الذي اختارته القوى الدولية الفاعلة لحكم شعوب المشرق العربي بما في ذلك الشعوب العربية في سوريا ومصر والعراق وغيرها، بما يناسب النظام العولمي وقوانينه الاقتصادية، ومجمل استراتيجيته العالمية.
‏‏وعلى ما ‏يبدو فإن الأنظمة الديكتاتورية العربية ترفض أي مطالب شعبية لتغيير سلوكها لكنها تخضع لطلبات تعديل أو تغيير سلوكها بين الحين والآخر التي يأمر بها المشغل والداعم، بما يضمن استمرارها، إذ يظهر سلوك الديكتاتوريات داخليا وخارجيا أنها تمارس دورا وظيفيا يتجاوز حدود أقطارها، أي أنها ليست أنظمة لإدارة دول وشعوب المنطقة العربية، بل هي أنظمة لإدارة تهميش الدولة وتمييع دورها، ولإخماد فاعلية الشعب وتحويله إلى مجموعة عبيد في الداخل يحلمون بالهجرة للتحول إلى عبيد في الخارج، هناك حيث السيد رب العمل أقل شراسة وتوحشا، رغم الاستغلال والغربة.

كل نظام سياسي حاكم لسوريا هو نظام وظيفي مهنته الأولى التناغم مع النظام الإسرائيلي ومنع أي تهديد وجودي أو غير وجودي له.


وبالنسبة لسوريا فإن وضعها الجيوسياسي تحديدا باعتبارها الدولة الأكبر المحيطة باسرائيل حَتَم على نظامها السياسي أن يكون بمواصفات خاصة، فهو أولا يجب أن يكون نظاما استبداديا، إضافة لذلك يجب أن يرعى التخلف بتخريب كل ما أنجزه السوريون خلال عقود منذ إعلان استقلالهم الأول 8 آذار 1920 وبعد ذلك يجب أن يكون نظاما نهبويا يسرق بطرق شتى ثروات السوريين ويصدّرها إلى بنوك أوروبا وأميركا.

فلا يمكن فهم الوضعية السياسية التاريخية لسوريا والنظام السياسي الحاكم لها بعيدا عن الوضع الجيوسياسي لإسرائيل ودورها الوظيفي كامتداد أوروبي أميركي في شرق المتوسط، أو كـ "إمارة صليبية" في الجوهر، يهودية أو صهيونية شكلا، بهذه الخلفية فوظيفة الديكتاتوريات العربية حماية النظام الإسرائيلي بمنع أي حرب عصابات يشنها مقاتلون عبر الحدود، ولكن أكثر من ذلك، منع ازدهار الشعوب العربية المحيطة بإسرائيل لأن ذلك يعني بناء صناعة تستهلك ثرواتها المعدنية والبترولية الوطنية، وهذا خط أحمر، فهذه الثروات في العقيدة الاستعمارية هي ملك لأوروبا وأميركا.
‏بهذه الخلفية نعتقد أن كل نظام سياسي حاكم لسوريا هو نظام وظيفي مهنته الأولى التناغم مع النظام الإسرائيلي ومنع أي تهديد وجودي أو غير وجودي له، لأن في ذلك تهديدا للنفوذ والمصالح الاقتصادية والسياسية والأمنية لأميركا وأوروبا في شرق المتوسط وصولا إلى الخليج. فأي حركة تحرر أو انتفاضة عربية تهدد ديكتاتورا عربيا أو أكثر فهي كأنما تهدد النظام الإسرائيلي، ومن يهدد الأسد أو السيسي أو غيرهما إنما يهدد نتنياهو، وأبلغ دليل على ذلك صدور مذكرة من القضاء الفرنسي تطعن في صلاحية مذكرة الاعتقال الصادرة في فرنسا أيضا بحق بشار الأسد في قضية هجمات بالسلاح الكيماوي سنة 2015، قال محللون إن هذا الطعن ما هو سوى مقدمة وتمهيد لمنع إصدار مذكرة اعتقال محتملة بحق نتنياهو في فرنسا.
‏وبعيدا عن موقف القضاء الفرنسي المتذبذب ومذكرتي اعتقال نتنياهو والأسد المحتملتين، وعودة إلى الموقف من الديكتاتورية فإنه يتضح يوما بعد يوم وحدثا إثر آخر تلازم ديكتاتوريات المنطقة ضد شعوبها، لذا قد يمسي صحيحا القول إن من يقف في صف بشار الأسد من موالاة تدّعي الوطنية ومناصرين عرب ومسلمين يدّعون الممانعة، سيجدون أنفسهم في وقت قريب يقفون - موضوعيا- في صف نتنياهو، كذلك الأمر سيجد المعارضون لبشار الأسد أنفسهم أوتومتيكيا ضد نتنياهو، فلا يستوي أن تكون ضد جزار وفي ذات الوقت تقف مع جزار آخر، فالإجرام واحد، والضحايا إخوة وإن كانوا من أمهات شتى.

لم يعدم الرؤساء الديكتاتوريون العرب الحيلة والوسيلة لخلط الأوراق ورميها في وجه شعوبهم ليعيدوها مئة سنة إلى الوراء.

لقد نجحت الأنظمة العربية الديكتاتورية في قلب ثورات شعوبها من أجل الحرية والكرامة إلى حروب أهلية في ليبيا واليمن والسودان، تغذيها وتزيد في أوارها قوات مرتزقة ودعم إقليمي و دولي، واستدعت الديكتاتورية الأسدية لمواجهة ثورة السوريين التحررية ثلاث قوى احتلال هي ميليشيات إيرانية وميليشيات قنديلية إضافة للجيش الروسي.
فلم يعدم الرؤساء الديكتاتوريون العرب الحيلة والوسيلة لخلط الأوراق ورميها في وجه شعوبهم ليعيدوها مئة سنة إلى الوراء، ولتجد هذه الشعوب العربية نفسها ليس في مواجهة عدوها الأول الديكتاتوريات المحلية، فحسب، إنما في مواجهة عدوها الثاني الاستعمار راعي وحامي الديكتاتوريات العربية، فما هي الأنظمة الاستبدادية المحلية سوى مجموعة وكالات لـ "مؤسسة الاستعمار عن بعد وشركائها واسعة الصلاحية" إذا جاز التعبير.
وقريباً قد تجد ثورات التحرر نفسها أمام خيار وحيد، أن تتحول إلى حركات تحرير، من يعلم؟!