الخيمة و"الفزعة".. لجوء أم عودة إلى البادية؟

2023.03.10 | 07:22 دمشق

الخيمة و"الفزعة".. لجوء أم عودة إلى البادية؟
+A
حجم الخط
-A

إثر زلزال تركيا وسوريا حضرت البادية مرتين، الأولى في حالة اجتماعية بدوية تجسد فيها أخلاق أهلها النشامى، هذه الحالة تسمى بالفزعة، والثانية بعودة الخيم للظهور خارج المخيمات، في المدن والبلدات المنكوبة، إذ انتشرت الخيم في غير مكان من سوريا لاسيما في إدلب واللاذقية وحمص بعدما اضطر الأهالي لترك منازلهم أثناء الهزات الأرضية، في أجواء ممطرة تميل فيها درجات الحرارة للانخفاض في الليل وساعات الفجر، وساعات الصباح الأولى. فخلال الأسبوعين التاليين على زلزال السادس من شباط شوهدت في غير مكان من الساحل خيم وشوادر يلجأ إليها السكان الخائفون من البقاء في منازلهم، بعضها نصبت في ساحات رئيسية أو أحياء متضررة أو في أحياء لم تتضرر بشكل كبير نصب بعضها في الشوارع، وعلى الأرصفة، ولجأ بعض المواطنين لنصب خيم فوق أسطح منازلهم المكونة من طبقة واحدة، وتفننت صفحات الفيسبوك الساحلية في نشر صور لخيم كبيرة عادية وفقيرة وخيم أخرى فخمة!!

هكذا بفعل كارثة الزلزال الذي دفع الناس إلى خارج منازلهم المدمرة أو الآيلة إلى السقوط عند أول هزة أرضية، تفجرت أزمة جديدة تضاف إلى أزمات السوريين المتلاحقة، ألا وهي أزمة فقدان المأوى، وأصبحت الخيمة هي حلم السوري في مناطق الزلزال شمال غرب سوريا، وصولا إلى مدينتي جبلة واللاذقية حيث نقل شاهد عيان أن مئات العوائل فيهما فقدت بيوتها تماما أو هي لم تعد صالحة للسكن، بحيث اضطرت العوائل التي فقدت بيوتها لنصب شوادر تستخدم أصلا للعزاء في بعض الساحات.

ويبقى الوضع في شمال غرب سوريا هو الأصعب، والكارثي، فالخيم الواصلة لا تكفي كل المحتاجين، ومن الصعب تأمين خيمة لكل عائلة فقدت بيتها، إضافة إلى أن هناك من يتحدث عن سرقة خيام المساعدات وبيعها بمئة وعشرين دولاراً، ويبدو أن سعر الخيمة وصل في إدلب إلى مئتي دولار. يكتب أحد المنكوبين بألم ومرارة عارضا بيع أحد أعضائه مقابل ثمن خيمة تؤوي أطفاله: "بشرى لأصحاب الدخل المحدود.. تعالوا إلى ريف إدلب.. أي عضو بثمن خيمة لأطفالي.. مئتا دولار فقط.. تعالوا وخذوا كل أحشائي بثمن خيمة.. أعضاء مجربة في أحلك الظروف.. البرد والجوع والظلم.. خذوها هذه المرة بثمن بخس.."

الفزعة:

الحالة الثانية التي ينبغي التوقف عندها وظهرت أيضا إثر كارثة الزلزال هي حالة "الفزعة"، فمن دير الزور انطلقت قافلة إغاثة "فزعة" لنجدة أهالي إدلب وشمال غربي سوريا وكذلك أهالي الساحل.

والفزعة حالة راقية من التضامن الاجتماعي في زمن النكبات والكوارث، فهي لو أحسنا وصفها لقلنا إنها حالة من الانفجار العاطفي عند جماعة تدفعها للانطلاق لمساعدة جماعة منكوبة، وفي تلك الحالة الوجدانية الملتهبة لا يلوي الإنسان على شيء فلا يفكر حتى بنفسه، حتى أنه ربما ينسى قوت عياله في الغد فربما يظلمهم في سبيل نصرة مستغيث نكب بزلزال أو مجاعة أو موت.. هذا ما وجدناه في فزعة أهالي دير الزور الذين تبرعوا بالمال والمواد العينية بل تبرعت نساء المنطقة بأهم ما يملكنه ويعد أساسا في كل بيت من بيوت دير الزور والرقة ألا وهي "النضيدة" التي تعبر عن مدى ترحيب واحتفاء الإنسان في تلك المنطقة بالضيوف، لكن المنكوبين بالزلزال الخاسرين بيوتهم لا شك هم أهم الآن من أي ضيف.. وكم هي أخلاق عظيمة أن يتقاسم الإنسان جزءا من مكونات بيته مع منكوب محتاج..

لم يبق أحد في السوريين كبارا وصغارا نساء ورجالا أغنياء وفقراء لم يفزع للسوريين المنكوبين أو يغيثهم..

في الكوارث تتجلى أهمية تقديم المعونة مهما كانت بسيطة وقليلة في تفعيل روح العطاء عند الإنسان.. فهذه الروح إذا ما فعّلت عند الناس فإن شبكة لا مرئية من التعاطف والتضامن والمحبة تتفعل في شتى أنحاء مجتمع المتعاطفين المتعاونين، ليعود المجتمع إلى إنسانيته فتتجدد روحه وتشع بطاقة تمنحه حياة جديدة.

إنها قفزة وجدانية تنقل المجتمع إلى مستوى أعلى في الإنسانية.. وهي أيضا بمثابة قفزة "روحية" تضمن للمجتمع المنكوب تجاوز نكبته المادية والنفسية.

فلم يبق أحد في السوريين كبارا وصغارا نساء ورجالا أغنياء وفقراء لم يفزع للسوريين المنكوبين أو يغيثهم..

ومن ناحية ثانية فأهمية فزعة السوريين في وضعنا السوري الكارثي على أكثر من مستوى تأتي من كون الفزعة فعلاً إنسانياً أخلاقياً يرتقي لمستوى الضدية من فعل ميليشيات النظام خلال الحرب التي كانت تتفرغ بعد "الغزو" إلى التعفيش، حالها حال المناصرين في حروب القبائل أيام الجاهلية.

كما أن الفزعة هي فعل مضاد لدناءة وخسّة اللصوص في مدن وبلدات تركيا الذين استغلوا كارثة الزلزال لنهب محتويات المنازل المهدمة.

العودة إلى البادية وإلى نمط البداوة:

إذاً هل نعود إلى عصر البداوة إلى البشرية الأولى لو استمرت الزلازل بضرب بلادنا؟  الحقيقة أن ما لا يقل عن مليوني سوري يعيشون الآن تحت الخيم والشوادر والصالات الرياضية وصالات كانت تستخدم للعزاء والأفراح وأيضا في مراكز العبادة ..

وفي ظل نظام لم يوفر وسيلة لتحطيم حضارة السوريين، لا نستبعد عودتهم إلى حالة معاشية أقرب ما تكون إلى البدائية..

والسوريون لم يبتعدوا كثيرا عن طقوس البادية، إذ تبقى لها جماليتها وجاذبيتها.. وعلى سبيل المثال استمر أهالي مدينة السلمية حتى سنوات قريبة يخرجون في بداية كل ربيع إلى أطراف البادية ينصبون خيامهم يعيشون حياة البادية ما يقرب أسبوعين من الزمن.

أتذكر.. فالبادية هي المكان الوحيد الذي يمكن للإنسان أن يعيش فيه بحرية دون متطلبات كثيرة، وأقصد بالحرية، التحرر من الحاجات المعقدة والمركبة التي هي في الحقيقة ليست حاجات وإنما متطلبات حتمتها علينا الحياة بعيدا عن البادية، بعيدا عن حياة الرعي والعائلة العشيرة.. أقصد حياة المدن أو الريف المجاور للمدينة المتشبه بحياة المدن.. حيث الأبنية المحتشدة المتطاولة، والأحياء العشوائية التي تبنى بيوتها وبناياتها بغير نظام وكيفما اتفق، بمواصفات فادحة في عشوائيتها ومخالفتها لأبسط قواعد البناء ومتطلبات السلامة، بحيث إن هزة أرضية متوسطة يمكن أن تحيلها ركاما يدفن ساكنيها، فلا غرابة في لجوء أهل المدن في البلاد العربية الذين يخشون من زلزال أو من هزات أرضية قوية، إلى الخيم، ينصبونها قرب بيوتهم تحسبا.. كأنما هم يستعدون للعودة إلى الريف أو البادية في بلد أو إقليم يعود القهقرى إلى الوراء.

مع ذلك فلا متطلبات قاهرة للبادية مقارنة بمتطلبات الحياة المعاصرة في المدينة أو حتى في الريف "المتمدن"، من مال وعمل وسكن وبريستيج، ولا ضغوط من دولة مهيمنة وقوانين عوجاء وعدالة مستحيلة.

ألم تكن البادية المكان الأول لأسلافنا؟  أو ليست البادية الملجأ الأخير لنا في عالم يصرّ على تدمير حضارة الشرق الأدنى ومدنه

في البادية لديك إمكانية لا تنضب للحياة الحرة، حياة بسيطة لكنها أصيلة.. فإن ندر الكلأ في أرض انتقلت إلى بادية مجاورة برأس مال بسيط ومستمر وآمن، بضعة رؤوس من الغنم ووسائل الإنتاج هي أرض ممتدة، أرض الله لا يملكها أحد، وعشب لا ينضب هو عشب الأرض المشاع، ومطر ستنتظره طويلا، إنما سيأتي أخيرا هنا أو هناك بما يكفي لتبقى القطعان حية ومن ورائها الرعاة وعوائلهم.

ألم تكن البادية المكان الأول لأسلافنا؟ أو ليست البادية الملجأ الأخير لنا في عالم يصرّ على تدمير حضارة الشرق الأدنى ومدنه، من الموصل إلى حلب مرورا بدير الزور وبيروت ودرعا؟!! في عالم يقترب يومياً من حرب عالمية شاملة، ربما تستخدم فيها الأسلحة النووية! فإذا كانت العودة إلى حياة البادية تضمن لنا نحن السوريين حياة من التآخي والتعاون والمحبة، حياة مليئة بالفزعات فيا أهلا ومرحبا بالبداوة..