icon
التغطية الحية

الخطاب السياسي بين توعية الجماهير وتسلّط المخابرات

2023.01.16 | 10:07 دمشق

يسيسي
غوبلز (ويكيبيديا)
سهير أومري
+A
حجم الخط
-A

كانت الكتابة السياسية وما زالت شكلاً مهماً من أشكال تكوين الوعي والتأثير في الجماهير، الأمر الذي جعل أهمَّ عوامل نجاح أي سياسي هو اكتساب القدرة على الكتابة السياسية المؤثرة، وتأليف خطاب سياسي ناجح يوجه من خلاله الرأي العام، أو  التحكم في وسائل الإعلام وجعلها تتبنى مهارات الكتابة السياسية الناجحة في الوصول إلى الجماهير وتسييرها وامتلاك ناصية وعيها ولاوعيها أيضاً.

الكتابة السياسية وصفات الجماهير

من أشهر الكتاب الذين درسوا صفات الجماهير وعوامل التأثير به (غوستاف لوبون) فقد حدد صفات الجماهير في كتابه "سيكولوجيا الجماهير" بعدة عناصر أهمها:

  • سرعة الانفعال والخفة والنزق، فيقول: (لا شيء متعمد ولا مدروس لدى الجماهير فهي تستطيع أن تعيش كل الأنواع، وتنتقل من النقيض إلى النقيض بسرعة البرق، وذلك تحت تأثير المحرض السائد في تلك اللحظة التي تعيشها).

 وبذلك فإن الكتابة السياسية التي تأخذ هذه السمة بعين الاعتبار تنجح في الوصول بالجمهور إلى ما تريد، وذلك عند استثمار الحدث والموقف المؤثر لقيادة الوعي وتوجيهه.

  • سرعة التأثر والسذاجة وتصديق أي شيء، وبذلك يرى لوبون أن الفكرة التي يتم الكتابة عنها بشيء من التأكيد يمكن أن تتحول إلى فعل بشكل سريع وغير متوقع، سواء أكان حرق قصر أو إنجاز عمل خيري عظيم، وذلك له علاقة بطبيعة الخطاب المحرض ومدى تأثيره في الجماهير،  ويرى لوبون أن الجمهور يصبح بحالة المنوَّم مغناطيسياً، والخطاب السياسي هو الذي يسلبه القدرة على الوعي أو الصحو بقدر ما يلامس نقاط التأثير فيه.
  • التعصب والاستبداد والنزعة للمحافظة، فالجماهير تعترف بمبدأ القوة في الخطاب وتكره الطيبة، لأنها تعتبرها ضعفاً، ولذلك لم يُعرف أن الجماهير مالت في يوم من الأيام للزعماء الرحيمين الذين يعتمدون الخطاب الطيب أو اللهجة المليئة بالمشاعر والحنان، بل يميلون للزعماء الأقوياء الذي يميل خطابهم السياسي للقوة والبأس.

هتلر وسمات الخطابة السياسية

عُرف هتلر بأنه صاحب أكبر النماذج تطرفاً وشمولية في الحكم، وهو ما عُرف بالنازية، والسؤال كيف استطاع هتلر أن يؤسس لفكر بهذا القدر من التطرف، وكيف استطاع أن يؤسس لشعب ثار باسم الفاشية والنازية في أكثر دول أوروبا تحضراً وهي ألمانيا ، والواضح أن هتلر تأثر بما كتبه لوبون، فقد عرف أنه يجب عدم محاججة الجماهير، وإنما جذبها والقيام بالتأثير على أفكارها عبر استخدام الصور الذهنية، وذلك في خطبه السياسية الشغوفة الملتهبة، التي كانت تعبيراً واضحاً عن رفضه للنقاش، والتي كان يعمد فيها إلى تكرار المواضيع نفسها دون ملل كي تدخل في الرؤوس وتقنع الجماهير.

ما أكد عليه لوبون في كتابه "سيكولوجيا الجماهير" من دور "التكرار" في السيطرة على الشعوب، هو ما اعتمده نظام الأسد أيضاً في ترسيخ حكمه وسيطرته

فعلى سبيل المثال نرى هتلر يستشهد في أحد خطبه بكلام (فون مولتكة) فيقول: (إن أساليب القتال العنيفة هي أكثر الأساليب إنسانية لأنها تعجل في وضع حد للحرب)، وبهذا يشرعن سياسته المتبعة في القتل بأسلوب يبرر فيه الوحشية، ويمنحه صفة القوة ويرسخ الصورة الذهنية الرحيمة للقتل بأنه يبتغي به مصلحة الجماهير.

وقد عين هتلر أحد أدهى العقول وهو جوزف غوبلز، أحد أمهر المتحدثين السياسيين ليكون وزيراً للدعاية السياسية، وكان دارساً لنفسية الجماهير، فاستطاع بتنظيمه للخطاب السياسي أن يروِّج للفكر النازي بقوة، كما أسس لخطاب سياسي صار مرجعاً فيما بعد للخبراء والسياسيين لقيادة المجتمعات التي يكون الحكم فيها عسكرياً.

فكان غوبلز زعيماً للحرب النفسية في ذلك الوقت مستثمراً وسائل الإعلام مؤكداً أن الذي يملك وسائل الإعلام إنما يملك القوة والإرادة

مبادئ غوبلز للتحكم بالجماهير

كانت أهم المبادئ التي اعتمدها غوبلز في تأثيره بالجماهير:

  • التحكم في مصادر الأخبار، واضعاً  القيود على ما يتلقاه الشعب، مصنفاً الأخبار محدداً ما سيتم عرضه على الجمهور وما سيرافقه من تحريض أو تغييب.
  • اتخاذ التكرار كأهم أسلوب من أساليب الخطاب السياسي، فقط كان غوبلز يرى أن التكرار أهم أسلوب اتخذته الكنيسة فيما سبق للتحكم في الجماهير، وأن التكرار أهم ما يتحكم في تشكيل اللاوعي لدى الجمهور، فهو يصنع دوافعه، حيث يتحول الأمر المكرر إلى إيمان جازم وعقل جمعي أو ما يسمى بالرأي العام

هتلر وبروباغندا بيرنيز

وبالعودة إلى هتلر وخطابه السياسي، فإنه لم يعتمد على غوبلز ولوبون وحدهما في دراسة وتحليل عوامل التأثير في الجمهور، فقد برز أيضاً شخص آخر تأثر به هتلر واعتمد عليه، وهو إدوارد بيرنيز، القادم من فيينا، وكانت مؤلفاته تعكس تخصصه في السيطرة على الجماهير، ومنها (بروباغندا 1928)، و(بلورة الرأي العام عام 1923)، و(هندسة القبول 1947)، وكان بيرنيز يرى أن السيطرة على عقول الجماهير من خلال الخطاب السياسي ميزة أساسية من ميزات النظام الديمقراطي، يقول في كتابه بروباغندا: (إن صياغة الوعي والعقل الجمعي للمجتمعات هو أحد الأدوات المهمة في المجتمعات الديمقراطية).

وكان من بين زبائن بيرنيز عدد من رؤساء الولايات المتحدة، وشركات صناعية كبرى مثل دودج، وفورد، وجنرال إلكتريك، وجنرال موتورز، والعديد من القنوات التلفزيونية مثلcbs  nbc...

ترجم بيرينز نظرياته حول التأثير في الجماهير من خلال أكثر خطاباته نجاحاً، وهي التي ساهمت في إسقاط حكومة غواتيمالا المنتخبة ديمقراطياً ورئيسها جزمان، وذلك لمصلحة الشركة المتحدة يونايتد فروت، وسمي ما فعله بعملية انقلاب غواتيمالا عام 1954 حيث ركز خطاب بيرنيز السياسي على وصم الرئيس الغواتيمالي بالشيوعية في معظم وسائل الإعلام من خلال حملة إعلامية شعواء أدت في النهاية لسقوط الحكومة وتسخير أبناء الشعب الغواتيمالي إلى عبيد يعملون لدى الحكومة الأميركية بشكل عير باشر للاستيلاء على فواكه الدولة لصالح شركة الفواكه المتحدة، وعلى إثر صنيعه ابتُكر مصطلح: (جمهورية الموز) للدلالة على سيطرة شركة الفاكهة المتحدة على الحكومة الفاسدة في غواتيمالا ودول أخرى في أمريكا الوسطى. حيث استغلت الشركة بوحشية العمال العبيد لإنتاج موز رخيص للسوق الأميركي المربح.

ارتباط الكتابة السياسية بالمخابرات

وعلى خطا سابقيه وفي التأسيس للكتابة السياسية التي تشكل الوعي وتقود الجماهير جاء (والتر ليبمان) الذي أسّس لقضية في غاية الأهمية تتعلق بالكتابة السياسية مفادها ما يلي: (لما كانت مهمة الإعلام الأساسية مواجهة الجماهير وإخضاعها لكل أنواع السلطة بكل الوسائل الممكنة ارتبط بالإعلام أحد أهم مؤسسات الدولة وهي مؤسسة المخابرات التي من أهم ملفاتها التحكم والسيطرة الكاملة على كل ما يُقرأ ويُسمع ويُشاهَد من قبل الجماهير.

ووفق ما أسّس له ليبرمان فقد صار من السهل تصنيع نتائج التصويت والانتخابات والتحكم بها، وعدم تركها للميول التلقائية للجماهير التي يجب أن تبقى متلقية للخطاب السياسي ومتأثره به ومنفعلة له غير فاعلة ولا مشاركة فيه، ليسهل السيطرة عليها وتوجيه أفكارها، لذا كان ليبيمان موجهاً أساسياً لكثير من السياسيين في خطاباتهم التي تسحب من عقول الجماهير وظيفتها، وتعيدها صفحات بيضاء يستطيعون السيطرة عليها وتوجيهها كما يشاؤون.

كيف تجلت عناصر السيطرة على الجماهير في سياسات الزعماء المعاصرين؟

لم يكن الخطاب السياسي الشخصي لحافظ الأسد ومؤسسته الإعلامية وليدة تفكيره الشخصي بل حصيلة الدراسات النفسية والسيكولوجية التي أتى بها كل الذين توقفنا معهم من لوبون وغوبلز وبيرنيز وليبمان فجاء خطابه السياسي متحكماً في لاوعي الشعب السوري وقائداً لعقله الجمعي، فقط عرف الأسد ما جاء به لوبون من أن أهم سمات الخطاب السياسي المتحكم في الجماهير اعتماده أسلوب التأكيد  وأسلوب التكرار، وهذه الأمور بحسب تعبير لوبون لا شك أن تأثيرها بطيء ولكنه دائم.

وقد وضّح لوبون في سيكولوجيا الجماهير سمات التأكيد فقال: (والتأكيد المجرد العاري من كل محاجة عقلانية أو برهانية سيشكل الوسيلة الموثوقة لإدخال فكرة ما في روح الجماهير، وكلما كان التأكيد قاطعاً وخالياً من كل برهان كلما فرض نفسه بشكل أكبر، فالكتب الدينية والقوانين في كل العصور استخدمت دائماً أسلوب التوكيد المجرد عن كل شيء).

هذا بالضبط ما اعتمده نظام الأسد خلال العقود الخمسة الأخيرة من خلال تقديم نفسه على أنه الممانع والمقاوم دون التطرق للدفاع عن نفسه أو عن سياسته في عدم تحرير الجولان مثلاً، أو تبرير مجازره ضد السوريين والفلسطينيين وغيرهم، بل كان يقدم نفسه على الدوام على أنه المقاوم لكل المؤامرات الصهيو- أميركية، الرافض للتطبيع مع إسرائيل، بما يجعله يرتقي فوق كل طعن أو تشكيك، بل مرسخاً أهمية تعظيم دوره ومكانته في مواجهة إسرائيل وفي المنطقة بشكل عام.

أما ما أكد عليه لوبون في كتابه من دور "التكرار" في السيطرة على الشعوب، فهذا ما اعتمده نظام الأسد أيضاً في ترسيخ حكمه وسيطرته  وذلك من خلال:

  • الشعارات التي يرددها الطلاب في المدارس كل صباح.
  • ما يتكرر يومياً في الصحف والتلفاز من تعظيم للقائد وإنجازاته وبطولاته وربط كل ما في الوطن باسمه ليصبح وجود الوطن نفسه من إنجازاته.
  • خطب المساجد وأدعية الخطباء على المنابر التي تربط طاعته بطاعة الله، والقيام عليه بالخروج عن أمر الله، وشقّ عصا الطاعة.

ختاماً، نرى مع تحكم الخطاب السياسي والكتابة السياسية في تشكيل وعي الجماهير أن الواقع أصبح في خطر، وأصبحت الحقيقة تهددها وسائل الإعلام عامة والكتابة السياسية خصوصاً لأنها تقوم بعمل العين والأذن لأفراد المجتمع، فتساهم في تشكيل الرأي والرأي الآخر، وفي رسم أبعاد الواقع حتى لم تعد الحقيقة مجموعة أحداث تجري، بل هي ما يمكن للخطاب السياسي أن يقدمه من خلاله، وما يصوره به، وما يوجه نحوه الأنظار وفق ما تريده الأجندة السياسية التي تنظم هذا الخطاب وتؤلفه.