الحكم الضال والحزب المنسي

2024.03.05 | 07:06 دمشق

الحكم الضال والحزب المنسي
+A
حجم الخط
-A

أن تكتب عن حزب البعث الذي سمي بعد سنوات من تأسيسه حزب البعث العربي الاشتراكي، يعني ذلك أن تتحرر من ثقافته العقائدية غير الأصيلة أولاً، ولطالما اعتقدت وما زلت أعتقد أنه حزب لا ينتمي إلى ثقافة أمته وشعبه ومحصلة نتاجها، وثانياً هي عملية كفاح ضد غزو استباح التربية والتعليم والحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية حتى بلغ حدَّ لَيِّ عُنق التاريخ.

وإذا كنا نحن السوريين على مفترق كبير وحاسم، فعلينا أن نعيد ترتيب ما حدث من فوضى وعشوائية ونبين الهدفَ من تأسيس حزبٍ كهذا، وإذا أدركنا أن الهدف الكبير كان خلق رحم لحكم العسكر عبر العقيدة الزائفة. كان علينا أن نهدم، وبلا رحمة، ركائزه التي خدمت فضيلة الأسرة الحاكمة والتي سحقت كل شيء حتى بلغنا اليباب ودون ذلك الهدم لن نبلغ وعياً وطنياً حقيقياً.

حزب البعث الذي دغدغ الحلم العربي أسهب في سرديات رومانسية تفلسف معنى الرسالة الخالدة، وتأثراً بالفكر الاشتراكي، حاول ابتكار نظرية تلازم النضالين القومي والاشتراكي

وأما بعد.. لنقل أن الحزب نما وترعرع في ظل محيط عواطف ومشاعر قومية، وبظل عملية تثاقف متأخرة مع الحركة القومية الأوروبية، وانتسب للحزب الشباب من الطبقات والطوائف والمستويات الثقافية المختلفة، ولم تكن حصيلة الوقت والمكان تحتمل إنتاجاً أكثر جوهرية وأكثر نضجاً والتصاقاً بالواقع والمنطق ومناسب للشرائح العامة أكثر من حزب البعث، وهذا لا يلغي أبداً ظهور فكر متزامن ونخبوي ونقدي ومعرفي بقيَ حبيس الكتب والصالونات الثقافية وذكره في الدوريات الثقافية للمجلات، ولأسباب معقدة جداً لم ينتشر، وقد تكون الأسباب مقصودة أو موضوعية وذاتية، لكنه الأمر الذي ترك للحزب ساحة للتحرك، لم تكن في المجمل ساحة نقية وباردة فكرياً وثقافياً، وأي عمل ثقافي مهما كان وصفه ودرجته وقيمته سينتشر بشكل عميق وواسع أو ضيق ومقصود منه عملية التجييش لا بد أن يتوفر له ضرورات واقعية متعلقة بكل المنتج والمحصلة للظرف الذي تأسس وانتشر فيه.

حزب البعث الذي دغدغ الحلم العربي أسهب في سرديات رومانسية تفلسف معنى الرسالة الخالدة، وتأثراً بالفكر الاشتراكي، حاول ابتكار نظرية تلازم النضالين القومي والاشتراكي، ودأب بجهد ليشرح أنه يملك رحابة فكرية وقبولاً للآخر عبر مقولة القومية الإنسانية، وعرّف العربي تعريفاً لعله يخلق حالة تناغم وسط التشكيل الإثني والطائفي، فالعربي هو من سكن الأرض العربية وتكلم باللغة العربية، وبالغ في تجسيد القيم العربية المحافظة معتقداً أنه سيتجاوز رفض الأحزاب والطبقات المحافظة له إن كانت أو انتبهت له في المرحلة السرية، مثل أي حزب تعرض لملاحقة وتتبع لكنها لم تبلغ ولا بأي درجة ما مارسه الحزب نفسه عندما تسلّم السلطة.

وبعد أن تسلّم الحزب السلطة عبر انقلاب عسكري، لم يتطلب الأمر كثيراً من العناء والمقاومة، اختلف الأمر ليحدث في السنوات التي تلت بينونة كبرى بين النظرية البعثية وما يريده البعث في الحقيقة، وتلك قصة لم تنته كتابتها حتى يومنا هذا وإنْ بدت لنا جميعا أنها تكشفت وظهرت، فما خفي كان أعظم وسنبقى زمناً إضافياً لنفكك رموز الحدث والتشابك بين البعث والعسكر والأسرة الحاكمة.

أصبح البعث لزاماً نموذجاً عقائدياً يُفرض على كل فعاليات الحياة في سوريا، وهنا بدأت عملية الانزياح الكبرى والاغتراب بين الفكرة والمسلك، وكان قد سبق ذلك هدم الطبقة التي تحمل ذخر النهضة عبر قوانين التأميم الجائرة، الأمر الذي بشّر بانتهاكات كبرى تهدد المجتمع السوري. كان لحزب البعث بدعة الجيش العقائدي، وبدعة الأمن متعدد الأغراض والسراديب لحماية الدولة العقائدية. وسرح الحزب، الذي تم اعتقاله تماماً من قبل الأسد الكبير، في سرد انتصاره على إسرائيل التي فشلت عبر عدوان حزيران أن تقضي على الحكم التقدمي. بل أكثر من ذلك، هدمت الأسرة الحاكمة ما كان مفترضاً من نظام داخلي ونظرية تنظيمية عبر سلسلة من القرارات القهرية التي صنّمت الأسد حاكماً أبدياً، وأطلقت يد الأمن حتى بلغ الأمر الإعدام على أي نقد أو تندّر يقوم به أي فرد في سوريا.

وخلال الأعوام التي حكم فيها الأسد الكبير سوريا، فعلياً حل الحزب نفسه وركنه الأمين العام في محشر إلى أجل غير مسمى، وجعله أحياناً أنشوطة لتصيد غير المريد ومرات مقياسَ الحرص على هيبة الأمة، ونشره بسخاء عبر كتب التربية القومية وعبر المنظمات الرديفة له بدءاً من طلائع البعث وصعوداً حتى مسمى القيادة القومية، وأحكم على الجميع الرِّتاج وتفرد بحكم مركزي لا مثيل له في التاريخ المعاصر على الأقل في العنف والقهر والإفساد.

وبقرار من الابن الوريث، يعود البعث المقهور بعد موته السريري إلى غرفة الإنعاش لعله يكون ممراً لاستمرار هذا الإفلات المتفرد من الاستحقاقات الموضوعية والواقعية، ويقرر أن يصلح ويصحح ويبدو أن جائحة الخيال قد أخذت حالمي قيامة البعث نحو فقد الوعي الذي يعقبه موت محقق.

ألم يصل للحزب خبر الزمن الذي تجاوزه وعلى الأقل ألم يتنبأ بقرب سقوطه قبل أن يهوي إلى حيث لا قاع؟

أما كان للبعث لو أنه كان منتجاً أصيلاً أن يسعى لتجربة الثورة على نفسه؟ وأن يكون في المقدمة وهو يحاسب على انتهاك فكره؟ أليس الحزب، أي حزبٍ، يملك قوانين تضبط الظواهر الشاذة؟ وعلى صعيده الداخلي، ألم يصل للحزب خبر الزمن الذي تجاوزه وعلى الأقل ألم يتنبأ بقرب سقوطه قبل أن يهوي إلى حيث لا قاع؟

وفي نهاية قولي، ليس على النظام أن يستخدم أي تضليل ولا أي أسلوب ليعود للمخاتلة، فلقد فاته تماماً أن الشعب بدأ للتو بصنع شروط وظروف جديدة، وأن المجتمع القادم سيحدث لا محالة وتقررها قوانين حتمية أزلية شئنا ذلك أم لم نشأ.