جسّدت انطلاقة الثورة السورية في آذار 2011 فعلاً صادماً لوعي النخب السورية الثقافية والسياسية على حدّ سواء، وذلك من جهة قدرة الشعب السوري على تحطيم جدران الخوف واختراق هالة الرعب التي كان قد استمر تأسيسها طوال نصف قرن من عمر الدولة الأسدية، ولعل هذه الصدمة قد أحدثت كثيراً من الارتباك لدى قطاع المثقفين، فانكفأ كثير منهم، لا يدري أين سيقف وماذا سيقول حيال الشارع السوري الذي بدأ اشتعاله سريعاً، ولم تعد المظاهرات محصورة في حيّز جغرافي محدد.
النخب السياسية، مُمَثلةً بأحزاب المعارضة التقليدية، لم تكن أقلّ ارتباكاً وذهولاً، إذ لم تجرؤ العديد من الأحزاب على إبداء موقف رسمي من انطلاقة الحراك الثوري إلّا بعد مرور شهر أو أكثر، الأمر الذي بدا شديد الوضوح آنذاك هو وجود مسافة فاصلة ليست باليسيرة بين الجمهور العام للثورة من جهة، وبين قطّاع المثقفين والسياسيين من جهة أخرى. ولعل غياب دور فاعل للأطر السياسية السورية في صميم الحراك الثوري أدّى إلى ظهور أطر ثورية ميدانية بديلة آنذاك، أعني تنسيقيات الثورة التي كانت تُعنى بإدارة الحراك السلمي كتنظيم المظاهرات والتنسيق بين المدن والبلدات والتوافق على أسماء (جُمَع التظاهر) وسوى ذلك. وعلى الرغم من انخراط التنسيقيات في الأجسام السياسية التي تشكلت فيما بعد، بدءا من المجلس الوطني وحتى الائتلاف، إلّا أن هذا التمثيل لم يتمكن من ردم الهُوّة أو تقليص المسافة العازلة بين الكيانات الرسمية للمعارضة وبين الجمهور العام للثورة، ربما كانت أسباب ذلك تعود إلى ضلوع الدور الخارجي في تشكيل الأجسام السياسية للثورة، وربما أيضاً للاضمحلال التدريجي للحراك الثوري تزامناً مع النزوع المتسارع نحو العسكرة، أضف إلى ذلك التأثير الذي مارسته الجهات الخارجية على أجسام المعارضة، ما جعل العديد من ممثلي التنسيقيات أو الحراك الثوري يغادرون تلك الأجسام، ومن بقي منهم في تلك الكيانات فقد تماهى مع مسارها وبقي ارتباط اسمه بالحراك ليس أكثر من ارتباط شكلي فحسب.
جسّد سقوط الشطر الشرقي من حلب أواخر العام 2016 بيد نظام الأسد وحلفائه منعطفاً جديداً في سيرورة الثورة، إذ لم يعد أي دور فاعل لحراك ثوري سوري، بعد أن استطاع مسار أستانا احتواء القوى والفصائل العسكرية التي كانت بمجملها تقاتل تحت مُسمّى (الجيش الحر)، كما استطاع المسار المذكور الإمساك بمفاصل العملية السياسية التي بدأت تنزاح من سياقها الأممي إلى سياق محور ثلاثي (روسي تركي إيراني)، أفضى في نهاية العام 2019 إلى اختزال القضية السورية بتشكيل لجنة دستورية ما تزال تراوح مكانها حتى الوقت الراهن.
شهدت الفترة الممتدة من أوائل العام 2017 وحتى الوقت الراهن غياباً شبه تام لأي حراك مدني شعبي على الساحة السورية، باستثناء المظاهرات التي كانت تخرج في أوقات متباعدة، سواء في مناطق سيطرة (قسد)، أو مناطق سيطرة (الجيش الوطني)، وذلك احتجاجاً على قضايا معيشية أو أمنية أو خدمية، وغالباً ما كانت تنتهي تلك المظاهرات بالتفاوض بين سلطات الأمر الواقع والجمهور العام، أما في مناطق سيطرة نظام الأسد فلا وجود لأي شكل من أشكال الاحتجاجات الشعبية، وذلك بسبب السطوة الأمنية وارتفاع درجة التوحّش الأمني للسلطة الأسدية والميليشيات الحليفة لها.
ما يلفت الانتباه حقاً، أن هذا الحراك الشعبي على أهمّيته، لم يلق أي اهتمام من جانب كثير ممّن يُحسبون على قطّاع (النخب) سواء أكانوا من شرائح المثقفين أو الساسة
في الثاني عشر من شهر آب الجاري شهدت مدن وبلدات الشمال السوري حراكاً مدنياً سلمياً عارماً، وذلك على أعقاب التصريحات التي أدلى بها وزير الخارجية التركي بخصوص المصالحة مع نظام الأسد، وقد تميّز هذا الحراك الأخير بشموليته ووضوح أهدافه ومراميه، بل يمكن القول: إنه جسّد نقطة تحوّل كبيرة في مسار الثورة، ويتمثّل هذا التحول بكونه أعاد إلى الأذهان والنفوس الطقوس الثورية التي جسدتها الأشهر الأولى للحراك السوري عام 2011، ولعل الأهمّ من هذا كلّه، هو أن هذا الحراك الشعبي قد أسقط رهان كثيرين ممّن كانوا يراهنون على موت فكرة الثورة واندثارها، وجسّد رسالة شديدة الوضوح تشير إلى أن سطوة التدخل الخارجي وتدويل القضية السورية وتمزيق الجغرافيا، وجميع ممارسات سلطات الأمر الواقع بحق المواطنين والبؤس المعيشي والحياتي، لم يطفىء في ذوات السوريين رغبتهم في التحرر من الطغيان، ولم يثنِ إرادتهم عن المضي في النضال من أجل استعادة سوريا وطناً حراً كريماً لجميع السوريين، كما تؤكّد رسالة الحراك الشعبي أن قدرة الدول ونفوذها العسكري والسياسي على احتواء المعارضات الرسمية وترويضها لخدمة مصالحها لا يعني أبداً مصادرة إرادة الشعوب وسلبها حقّها في التحرّر والتغيير.
ما يلفت الانتباه حقاً، أن هذا الحراك الشعبي على أهمّيته، لم يلق أي اهتمام من جانب كثير ممّن يُحسبون على قطّاع (النخب) سواء أكانوا من شرائح المثقفين أو الساسة، باستثناء عدد محدود منهم، بل لعلها من المفارقات الجارحة للوجدان الشعبي ألّا يلقى هذا الحراك أي مسعى جديد لاستلهامه والبناء عليه، في حين أن أكثر هذه النخب ذاتها لم تتوان عن الإشادة بمنجزات ثورية فردية هنا وهناك، لهذا الفنان أو ذاك المخرج أو الرياضي أو سواهم، وهو أمر في غاية الإيجابية بالطبع، بل يوجب مزيدا من الاهتمام والعمل على تشجيعه وتنميته، إلّا أن ما يبعث على التساؤل هو التجاهل المستمر لأيّ مُنجز ثوري جمعي، في حين يكون الاحتفاء بالمنجزات الفردية شديد الحضور؟ ربما يقودنا البحث عن إجابة لهذا التساؤل، إلى الوقوف عند مسألتين اثنتين:
تتمثّل الأولى في كون الشرائح النخبوية طوال الفترة الممتدة من العام 2015 وحتى الآن، كانت هي الأكثر نزوعا نحو التسليم بأن القضية السورية خرجت من أيدي السوريين، نتيجة التدخلات العسكرية الخارجية ووقوع الجغرافية السورية تحت نفوذ دول متعددة، وبالتالي لا جدوى من التعويل على (الفعل السوري) بعيداً عن إرادات الدول النافذة، بل ربما أسقطت هذه الشرائح من حسابها أي دور للجمهور العام في ظل هيمنة السلاح وتحكّم سلطات الأمر الواقع على الحالة السورية عموماً، وربما عززت هذه القناعة لدى الفئات النخبوية نزوعاً نحو التبشير بموت الثورة، بل ونظرت باستخفاف وازدراء إلى أي خطاب يحيل إلى استمرار التعويل على الإرادة الشعبية أو إلى أي دور شعبي يسهم في صياغة أو رسم ملامح سيرورة الثورة، باعتباره خطاباً شعبوياً ساذجاً لا يرقى إلى استيعاب تحوّلات الصراع في سوريا. ولكن حراك الشمال السوري – وبما جسّده من مضامين – لا شك أنه أحدث صدمة مباغتة لدى هذه النخب، وبالتالي فلا هي قادرة على إنكاره أو نفي حضوره، ولا هي تمتلك الجرأة والشجاعة الكافية على الاعتراف بخطل تفكيرها وتفنّج نخبويتها الهوائية، ولا ترى من سبيل سوى البقاء في قواقعها الإيديولوجية واجترار رواكم ومخلفات أفكارها المتفسّخة.
وتتمثّل المسألة الثانية في عجز النخب الثقافية والسياسية طوال عقد مضى من الزمن، عن تحقيق أي مُنجز مهم يمكن أن يُحدث فرقاً نوعيا على مستوى القضية السورية، فهي على الرغم من انتقادها الدائم والشديد للكيانات الرسمية للمعارضة، إلّا أنها لم تستطع، لا أن تكون البديل، ولا حتى أن تساهم في إيجاد بديل وطني عن الأطر المفروضة على السوريين. وهي – كذلك - على الرغم من اعتمادها الشديد على الأدوار الخارجية، وتبشيرها الدائم بموت الإرادة الشعبية، وعلى الرغم أيضاً من تطوافها الدائم وقرع أبواب السفارات، إلّا أنها فشلت حتى الآن باستقطاب الموقف الدولي لصالح القضية السورية. وهي اليوم إذ تتوارى عن مواجهة الحضور القوي لحراك الشمال السوري، إنما تُضمر في دواخلها مزيدا من الحنق، ليس لعدم اهتمامها به فحسب، بل لأنه الفاضح لعجزها وعدميتها أيضاً.
يمكن الذهاب إلى أن الدور الخاذل الذي مارسته معظم النخب السورية حيال الثورة، سواء في بداية انطلاقتها أو في الوقت الحاضر، من خلال تجذّرها في بناها الفكرية البائدة وعدم مغادرتها لبروجها الإيديولوجية، واتهاماتها لمخالفيها بالشعبوية تارة وبالسذاجة والتسطّح الفكري تارة أخرى، لا يجسّد نزعتها المتعالية المزمنة على أي مُنتج وطني شعبي فحسب، بل يدل على تصدّع وعيها وتخلّفها عن إرهاصات الوعي الجديد للثورة.