الجيوش العربية ومآلات ثورات الربيع العربي

2019.08.08 | 00:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

يمكن القول إلى حد بعيد بأن نتائج الثورات في العالم العربي التي اندلعت منذ نهاية عام 2010 وبداية 2011 كانت منوطة بدور الجيش في البلد، إن لم يكن له الدور الحاسم في رسم وتحديد مآل الثورة والبلد بشكل عام. ففي تونس ومصر، اتخذت قوات الأمن والجيش موقفاً محايداً من المتظاهرين، إذ رفضت الانصياع لأوامر مواجهة المتظاهرين وقمعهم، فكانت النتيجة تنحية الحكام عن سلطتهم، وفي بلدان أخرى مثل ليبيا واليمن، وقع الانقسام في صفوف الجيش، فدخلت البلاد في حروب ما زالت مستمرة إلى اليوم، أما في سوريا، فكان الانحياز الكامل للجيش وقوات المخابرات إلى جانب النظام واضحاً منذ بدايات الثورة، فكان التدمير الكبير الذي ألحقته تلك السلطات بالبلاد.

يعتمد النظام الأسدي في سوريا على المؤسسة الأمنية والعسكرية في تثبيت حكمه، منذ أن تولى حافظ الأسد الحكم عام 1970، وهو نفسه القادم من تلك المؤسسة (قائد القوى الجوية ومن ثم وزير الدفاع)، لكن الأمر المهم، في سياسة الأسد الأب الذي أضفى أهمية على دور الجيش، وخاصة بعد حرب تشرين الأول 1973 -آخر الحروب مع إسرائيل- هو تحويل هذا الجيش برمته إلى أداة لحماية النظام، من خلال إعادة تشكيل هرميته على أسس طائفية، مع فتح الباب واسعاً أمام تنمية المصالح الشخصية لكبار الضباط، وفق آلية فساد وإفساد، مما يترك هؤلاء الضباط مرتبطين بعلاقة عضوية مع النظام، ويصبح استمراره هو استمراراً لمصالحهم.

يعتمد النظام الأسدي في سوريا على المؤسسة الأمنية والعسكرية في تثبيت حكمه، منذ أن تولى حافظ الأسد الحكم عام 1970

كانت التجربة الأولى لاختبار ولاء الجيش بقياداته الطائفية، في الأحداث التي انطلقت في بداية الثمانينيات عقب حركات الاحتجاج ضده، وخاصة في حلب وريف إدلب، حيث طوقت الفرقة الثالثة -بقيادة شفيق فياض- مدينة حلب، وعاثت فيها فساداً ونهباً وقتلاً، طيلة أشهر ابتداء من نيسان 1980، وارتكبت العديد من المجازر بحق سكانها، وهو نفس السلوك الذي تكرر في مدن أخرى، مثل سرمدا وجسر الشغور وغيرها.

التجربة الثانية، كانت مع المذبحة التي ارتكبتها قوات من إحدى تشكيلات هذا الجيش: (سرايا الدفاع التي شكلها وقادها رفعت الأسد) في سجن تدمر في تموز 1980، حيث نفذت عملية إعدام بشعة بحق المعتقلين...... والتجربة الثالثة، كانت في مدينة حماة في شباط 1982، حيث سحقت تلك القوات بأسلحتها الحديثة المدينة بأكملها، وليس فقط من قام بالتمرد، كما يُشاع، وقتلت عشرات الألوف وهجرت أكثر من ذلك، وسوّت الكثير من الأحياء مع الأرض، لتعيد فيما بعد هندسة المدينة، عمرانياً وديموغرافياً.

عبّرت التجارب الثلاث عن نجاح الأسد في إعادة بناء الجيش وترتيبه، على أسس طائفية واضحة، ليكون قوة تحمي النظام أولاً وأخيراً، وسط بيئة فساد توفر الثروة والجاه وفق سلسلة تنازلية تتناسب مع تراتبية الجيش.

بعد نجاح الثورتين في تونس، وفي مصر (التي أجهضها العسكر لاحقاً عبر انقلاب السيسي) اعتقد الشباب في سوريا أنه يمكن الخلاص من هذا النظام بنفس الطريقة؛ المظاهرات السلمية والاعتصامات، فمظاهرة من 25 ألف في شارع الحبيب بورقيبة نحو القصر الجمهوري أدت إلى أن يطلب وزير الداخلية من الرئيس بن علي أن يغادر إلى السعودية، وكذلك اعتصام في ميدان التحرير لأسبوعين أطاح بالرئيس مبارك.

لم يكن خيار الولد الوريث -بشار الأسد- مختلفاً عن خيار أبيه، وهو الخيار المتوافق مع المؤسسة الأمنية والعسكرية التي أرسى دعائمها الأسد الأب، فلجأ إلى مواجهة المتظاهرين بالاعتقال والرصاص، مما صاعد الأمور أكثر، حيث لجأ البعض إلى التفكير بحمل السلاح لحماية المتظاهرين، مدفوعاً بقناعة بأن هذا النظام لن يسقط بنفس الطريقة التي سقطت فيها أنظمة الاستبداد في تونس ومصر من قبل، وذلك بعد أن لم يجد ما يشير إلى أن هذا الجيش يمكن أن يناصر الشعب وقضاياه.  

حافَظ الجيش الذي أعاد ترتيبه حافظ الأسد على تركيبته وولائه، حيث لم تحدث حالات انشقاق قطع عسكرية كاملة، كما حدث في ليبيا واليمن، وذلك بسبب تغلغل أجهزة المخابرات الكثيفة في عموم الوحدات العسكرية، ومتابعتها لكل تحركات عناصرها، مهما كانت صغيرة. ودفعت حالات الانشقاقات الفردية، ضمن المناخ الذي كان سائداً في ذلك الوقت، إلى تأسيس الجيش السوري الحر، في محاولة لمواجهة عنف قوات النظام تجاه المتظاهرين، ومن ثم العمل على إسقاط النظام.

لم تنجح تجربة الجيش السوري الحر كنواة لجيش وطني، يحمي البلاد والعباد، وذلك لأسباب عديدة، أهمها تعدد الولاءات وتشعب مصادر التمويل، وسعي البعض -وبخاصة بعض تيارات الإسلام السياسي- لخلق تشكيلات خاصة وفق رؤيتها، مما ساعد في تحويله إلى مئات الكتل الصغيرة، التي دخلت في لعبة الصراعات الإقليمية بشكل أضرَ بالهدف الأساسي الذي دعا إلى تشكيله، وهو إسقاط النظام.

لم تنجح تجربة الجيش السوري الحر كنواة لجيش وطني، يحمي البلاد والعباد، وذلك لأسباب عديدة، أهمها تعدد الولاءات وتشعب مصادر التمويل

تمثلت استراتيجية الجيش "الأسدي"، الذي يسيطر عليه وعلى الأجهزة الأمنية ضباطٌ علويون، لا تربطهم أي علاقة بالمجتمع السوري سوى علاقة النهب والتسلط والاستعباد، في التعامل مع المظاهرات باستخدام الدبابات والقناصة لتفريق الناس من الشوارع، وصوّرت كل من يتظاهر بأنه من الأجانب والمتطرفين الدينيين والإرهابيين، ومن الضروري قتلهم، ومن لا يتبع الأوامر فمصيره الإعدام المباشر. وصار الجندي بين خيارين إما أن يقتل أبناء وطنه، وإما أن يُقتل.

ويعود هذا الدور البشع للجيش في سوريا إلى الخلل الهائل في تشكيله، فالعلويون لا يشكلون سوى نسبة 12 في المئة من سكان سوريا، بينما تبلغ نسبتهم بين المتطوعين في الجيش، ولا سيما الضباط، حوالي 80 في المئة، مما أكسب هذا الجيش صفة عدائية تجاه عموم السوريين. ولسوء الحظ، ساهمت هذه التركيبة الطائفية في وحدة وتماسك الجيش وراء قوة الاستبداد، حيث اعتبر هؤلاء الضباط والمتطوعون بأن قتالهم هو معركة وجودية، يقاتلون من أجل البقاء، وذلك نتيجة لتخيّلات زرعها النظام الأسدي، أوهمتهم بأن سقوطه سيعيدهم لحالات "عبودية" قديمة.  

عندما قرر الجيش عدم دعم النظام -كما في تونس ومصر- سقط النظام، وعندما انقسمت الجيوش -كما في حالتي ليبيا واليمن- دخلت البلاد في حروب طويلة، وعندما انحاز الجيش وراء النظام -كما هي حالة سوريا- دُمرت البلاد وارتهنت للأبد. ومن هنا يبدو أن للجيش الدور الأكبر في حسم نتيجة المواجهة المستمرة بين الشعوب المستضعفة والأنظمة المستبدة، وبالتالي يكون السؤال: هل ثمّة سبيل للخلاص، من هذه الأنظمة المجرمة، من دون إحداث تغيير في موقف الجيش الذي يثبتها؟ سؤال يوجب علينا التفكير جيداً فيه.