الجيوبوليتيك العربي: مبادر سياسي ومحايد عسكري!

2023.04.13 | 07:11 دمشق

الجيوبوليتيك العربي: مبادر سياسي ومحايد عسكري!
+A
حجم الخط
-A

يستعيد المحور العربي اليوم تحركه المتوازي في ملفات عربية متعددة، بقيت معلقة لسنوات دون حلول أو تحقيق استقرار في المنطقة، مع تدهور عربي عمومي في نتائجه، مع التهديد المستمر بإمكانية انتقال الفوضى لداخل دول الخليج ذاتها، أو تهديد أمنها القومي من بوابة الخليج العربي.

المبادرات العربية اليوم لا تقتصر على فعل وحيد الاتجاه، بل تتعدد محاوره وفق مراحل ومسارات متعددة. يبدو أوضحها، وبرعاية صينية، محاولة الخروج من الاستقطاب العالمي المعنون بين حدي العولمة العالمية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية ومن خلفها أوروبا، مقابل روسيا الجيوبوليتيكية ومحورها الأوراسي. هذا مع الاحتفاظ بعلاقات متوازنة مع طرفي المعادلة ودون استعداء أياً منها. في مستوى أقل انفتاحا على المحاور الإقليمية في المنطقة والمتباينة بين كل من تركيا وإيران، وهذه التي توجتها لقاءات التقارب المصري السعودي مع تركيا، في موازاة التقارب السعودي مع إيران. فيما تأتي المبادرة العربية اليوم، باتجاه الحل السوري كخطوة بارزة على السطح، لكنها غامضة المعالم السياسية، يكتنفها الكثير من الكتمان وكأن شيئاً ما يجب ألا يفصح عن مضمونه حتى لا يفسد! فيما تبدو النتائج المباشرة للتقارب الخليجي الإيراني أكثر وضوحاً في اليمن، والتي ستكون مؤشراً، في حال نجاحها، على الإفصاح عن مكنون المبادرة العربية تجاه سوريا، وقبلها ليبيا أو بموازاتها.

التحرك العربي في مؤشراته الأولى وكأنه متوازي الخطوات دون استفزاز أي جهة من أطراف الصراع فيه دولياً أو إقليمياً

في سياق ما نحاول رصده من تشكل محور جيوبوليتيكي عربي تقوده السعودية، يتضح الدور الصيني في هذه المعادلة، والذي يتفق مصلحياً مع ملفات المنطقة عربياً للخروج من الاستقطاب الروسي الأميركي العالمي، أضف لمحاولة ترسيخ الاستقرار السياسي ذي صفة الحياد تجاه كل من المسألتين الأوكرانية والسورية. إذ من مصلحة الصين ألا تبدو طرفاً واضح المعالم في المعادلة العالمية العسكرية في أوكرانيا كما كل من روسيا وحلف الناتو بقيادة أميركا، وألا تبدو دول الخليج العربي طرفاً واضحاً في المعادلة الإقليمية في المسألة السورية، كما كل من الدور الفعال التركي والإيراني فيها. ما يشير إلى أن التحرك العربي في مؤشراته الأولى وكأنه متوازي الخطوات دون استفزاز أي جهة من أطراف الصراع فيه دولياً أو إقليمياً.

المشهد العربي اليوم، مختلف عنه قبل عقد من الآن في بدايات الربيع العربي، إذ كان له دور الريادة والفعالية في ملفات ثوراته، سواء بالترحيب بالتغيير السياسي في تونس ومصر، والدخول الجزئي في ملفات ليبيا وأكثر منه في الملف السوري، خاصة التي ترجمتها مبادرات الجامعة العربية في العامين 2011 و2012، بالإقرار بضرورة التغيير السياسي في سوريا، ومبادراتها المتتالية سواء بإرسال البعثات العربية لها، أو تحويل الملف السوري لملف أممي بعد عجزها عن الحل فيه. بينما اتضح الدور العربي الخليجي أكثر وضوحاً في الملف اليمني بالتدخل العسكري المباشر. ورغم هذا، لم يحسم أي ملف من هذه الملفات بعد.

قبل عقدين من اليوم، كان للتحرك العربي ذاته الأثر البالغ في الملف العراقي، وفي مقدمتها دول الخليج العربي. والنتائج البادية منه تكرر التساؤل عما جنته من نتائج بعد عقدين من انهيار العراق أمام قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، خاصة وأن ثمة أسئلة تلح على واقع المنطقة العربية خاصة في جزئها الآسيوي: هل حقق انهيار الدولة العراقية ونظامها الأمن والسلام في المنطقة وتحقيق الديمقراطية في العراق ودول المنطقة؟ وهل زال تهديده المحتمل للخليج العربي؟ وهل تقدمت الدول العربية وخاصة الخليجية على مسك مفاتيح المنطقة وتشكيل محور عربي قادر على حل مشاكل المنطقة دون تدخلات خارجية؟

المستفيد الأساسي مما جرى في العراق منذ 2003، هو إيران وتمددها المباشر في الجنوب العراقي، وتحكمها في استقراره وإدارة شؤونه الداخلية، فيما تعرضت دول الخليج العربي لمستويات متعددة من التراجع العام، بدت أولها في الأزمة المالية العالمية الكبرى في العام 2008 الذي دفعت غالبيته دول الخليج العربي، وثانيها انكشاف المنطقة العربية على سلسلة من التراجعات في ملفاتها الإقليمية، اتضحت بالأزمة السياسية اللبنانية وتحكم حزب الله وتهديده للاستقرار فيه ونتائجها في استقرار المنطقة سياسياً ومالياً. ومع بدء ثورات الربيع العربي اتضح عدم قدرة العمق العربي على الفعالية بملفات المنطقة، خاصة مع تحول ثوراتها من سلمية لعسكرية عنيفة وتدخل الميليشيات الإيرانية الواضح في سوريا واليمن.

وفقاً للمعطيات أعلاه، يمكن استقراء بوادر معالم جيوبوليتيكي عربي عنوانه الأولي، تحييد دول العمق العربي من الصراعات الدولية والإقليمية كنتيجة مباشرة لعدم قدرتها على حسم مساراتها، خاصة وأنها مرتبطة باستقطاب دولي وإقليمي يفوق قدرة دول الخليج، فيما يأتي عنوانه الثاني والموازي للأول، ضمان أمن الخليج العربي وبدايته في استقرار الملف اليمني ونهاية حربها، كما وضمان ألا تكون دول الخليج جزءاً في أية معادلة عسكرية ممكنة الحدوث ضد إيران خلافاً لما كانت عليه وقت العراق 2003، بينما يبدو مستواه الثالث هو ضمان الاستقرار في سوريا والعراق ولبنان، وهذه مشروطة بتراجع الدور الإيراني فيهم، مقابل تراجع الدور التركي في سوريا.

ربما تكون القراءات الجيوبوليتيكية دائمة التغيير في المجريات والتحليل، بل هي كذلك حكماً، لكن مؤشرات المرحلة تشير الى متغيرات سريعة في الملف اليمني مع استمهال وتأن في الملف السوري، ومؤشراته الأوضح تكمن في مهلة الأشهر الأربعة التي أعطيت لإيران في ملفها النووي، وقبلها الستة أشهر المقدمة للسلطة السورية في الإعفاء من عقوبات قيصر الجزئية. وهو ما تنتظر دول الخليج العربي استجابة فاعلة فيه من قبل النظامين الإيراني والسوري، سواء بانسحاب إيران من ملفات المنطقة وتفاديها ما قد يعلن عنه لاحقاً من نتائج عدم استجابتها للقرارات الدولية، وجدية سلطة النظام السوري بالانخراط بالحل السوري وفق 2254، وتخليه عن الترابط الكلي مع إيران وما يتبعه من ملفات تهريب المخدرات والكبتاغون..

المحور الجيوبوليتيكي العربي سيحاول ألا يكون جزءاً من أية معادلة عسكرية ممكنة، بقدر التقدم في الملفات السياسية بالمنطقة ومحاولة تحييد المنطقة أي تصعيد فيها

في هذا السياق من الهام جداً الحديث عن دور مواز للمبادرة العربية بالشأن السوري مع شخوص من المعارضة السورية بموازاة مبادرتها مع السلطة ذاتها، ما يؤشر لمرحلة تفاوض متعددة الأطراف غير معلنة بعد. فيما ستشهد الأشهر المقبلة في المنطقة العربية نقاط تحول محورية في توجهها العام، وستكون المتغيرات فيها متسارعة بدءاً من حزيران المقبل على الأغلب، وهذه لن تكون نتائجها أو خطواتها واضحة قبل اتضاح الدور الأميركي والإسرائيلي فيها. بينما المحور الجيوبوليتيكي العربي سيحاول ألا يكون جزءاً من أية معادلة عسكرية ممكنة، بقدر التقدم في الملفات السياسية بالمنطقة ومحاولة تحييد المنطقة أي تصعيد فيها. بينما ستكون لعجلة الاقتصاد الحامل الأكثر وضوحاً في المبادرات العربية، هدفها تليين حدة النزاع السياسي العام، وتجنب أي نزاع عسكري ممكن. فهل سنشهد اتضاح محور جيوبوليتيكي عربي فاعل سياسياً واقتصادياً ويستفيد من نتائج تجربة العراق الكارثية؟ وهل سيتمكن من البقاء على حياده العسكري الذي يريد؟

ظني أن عداً تنازلياً بدأ في المنطقة وعلينا ألا نستعجل قراءة نتائجه، فالمتغيرات السريعة ستفرض شروطها، وستكون العنوان الأوضح للعنة الجيوبوليتيك.....