الجيش في دول الممانعة: تقديس المهانة

2020.08.06 | 00:05 دمشق

swry_lbnany.jpg
+A
حجم الخط
-A

صادف قبل أيام، عيد الجيشين اللبناني والسوري. للعرب مع جيوشهم حكايا كثيرة، فرق تصطحب التبجيل والتقديس، وفرق لا يعنيها أمر الجيوش غير أن مهامها تقتصر على حماية الحدود، وفرق ثالثة تبغضها ولديها مشكلات عميقة معها، ثقافياً، معنوياً، اجتماعياً ونفسياً.

عاشت الجيوش العربية على أمجاد شعبية، ومرويات قروية، بحيث يُحرّم أي نقاش جدّي وحقيقي حول الأدوار التي تقوم بها، من المغرب العربي إلى مشرقه. في الجزائر مثلاً، العبارة الأشهر في اختصار المشهد أنها "جيش له دولة". في مصر، للجيش حظوة ونفوذ وعمق لا يبلغه أحد، وعند أي مفصل سياسي، يكون الجواب أن الجيش هو الحل.

في مثل هذه الدول، يبقى الجيش كمؤسسة مركزية تتحكم بكل مفاصل الدولة وإداراتها وتجارتها ومصالحها الاقتصادية والمالية، والاتجاهات الشعبية والاجتماعية. فيحافظ الجيش على وجوده وقوته مقابل السطوة على حياة المواطنين، إلى حدود سحقها، وغالباً ما ترتبط عسكرة المجتمع، بتتفيهه وتغييب أي أفق للتطوير والتجديد والتقدم فيه. بحيث تأخذ المجتمعات طبائع البزّة العسكرية الموحدة، فيكون المجتمع نسخة متطابقة على صورة البزّة. ليس فيه ابتكار ولا تطوير، حتى الفنون تدخل في مضمار العسكرة فتصبح في خدمة الجيش، ولنا في أغاني الستينيات والسبعينيات أبرز الأمثلة.

على الضفة الشرقية للوطن العربي، يمكن اتخاذ من لبنان وسوريا أبرز الأمثلة لتجربة الجيوش، يختلف الجيش اللبناني بتركيبته ومهامه وأدواره بشكل جذري عن الجيش السوري. لكن النتيجة التي وصل إليها الجيشان في المحصلة متاشبهة في ظل سطوة الممانعة. كان الجيش اللبناني محطّ إجماع على الرغم من كل الخلافات السياسية والتوجهات، وفي ظل الاختلال الكبير في الميزان السياسي القائم على أسس ديمغرافية.

أما في سوريا، فإن الاختلال الديمغرافي الذي أرساه حافظ الأسد بشعار بعثي، جعل الجيش السوري صاحب سطوة متقدمة جداً في المجتمع السوري وبنية الدولة، بالتوازي مع تشكيل كيانات عسكرية أو ميليشيوية موازية، كقوات الدفاع الوطني أو سرايا الدفاع أو غيرها. حتى الفرق أو الألوية المنضوية تحت راية الجيش السوري، تمكّن حافظ الأسد من تحويلها إلى فرق عسكرية تابعة له حصراً خارجة عن إمرة الجيش، وغير خاضعة للتراتبية العسكرية المؤسساتية.

عاش الجيش اللبناني تجربة مريرة هي تجربة الحرب الأهلية، انقسم فيها على أسس طائفية ومذهبية، تشلّع إلى فرق متقاتلة، فيما بعد عادت واجتمعت في بوتقة واحدة وفي مؤسسة واحدة. لكن إعادة تجميع هذه المؤسسة بنيت على أباطيل كثيرة، أفقدت الجيش وبنيته المؤسساتية أي فعالية. هذا من الناحية المجرّدة وقبل الغوص في العمق.

الجيش السوري أيضاً عاش تجربة مواجهة الثورة السورية وسحقها. الانشقاقات التي حصلت بسبب الثورة لم تكن مؤثرة على البنية، لم تشق الجيش بشكل جذري، لكنه تشتت، فيما استحوذت الفرق المتنوعة الخاضعة مباشرة إلى أجهزة أمنية واستخبارية طائفية وعائلية على القوة والفعالية.

تمعن المجتمعات التي تقدّس العسكر ومؤسساته، في إهانة أنفسها، كتجربة الحذاء العسكري ورفعه على الرؤوس مراقصة، أو رفعه على لوحات وصور في المدن والشوارع، وهذا باب جديد من أبواب التخوين والتهوين في نفوس أبناء المجتمعات، فيصبح من يطرح نظرة نقدية لتجربة العسكر أو لممارستهم معرّضاً للتخوين والنبذ الاجتماعي، وهذه في حدودها الدنيا أولى تجارب تعطيل التفكير والابتكار.

والحالة يخبرها السوريون جيداً، كما خبرها اللبنانيون من قبل، تحت مقولة "جيشك على حق ولو كان مخطئاً". وهو الخطأ القاتل سياسياً واجتماعياً في مسارات الشعوب والمجتمعات

والحالة يخبرها السوريون جيداً، كما خبرها اللبنانيون من قبل، تحت مقولة "جيشك على حق ولو كان مخطئاً". وهو الخطأ القاتل سياسياً واجتماعياً في مسارات الشعوب والمجتمعات. للجيوش الوطنية مع منظومة الممانعة، حكاية مريرة إلى حدود بعيدة. وإذا كانت فكرة الجيوش تقوم على مبدأ رفع المعنويات العسكرية على حساب ضرب العنفوان المدني للجندي أو الضابط، وجعله في مرتبة أرقى من مراتب الآخرين، فإن ذلك ينتج أزمات متوالية ولا تنتهي. والأخطر هو تشكيل منظومات عسكرية موازية أصبحت أقوى من الجيوش الوطنية وأكثر فعالية وهي صاحبة القرار الفعلي.

وهذه تجربة أسستها الثورة الإسلامية الإيرانية، وتطبّق في العراق وسوريا ولبنان. فإيران عملت على تهميش الجيش الإيراني مقابل تأسيس منظومة عسكرية أقوى وأفعل تتمتمع ببنى اقتصادية وموارد مالية، وهي الحرس الثوري الإيراني، وفي العراق استنسخت التجربة في تأسيس الحشد الشعبي على حساب تهميش الجيش العراقي، والأمر نفسه الذي تكرر في سوريا، ما بعد الثورة، بحيث تحول الجيش إلى ميليشيات متفرقة تبحث عن قوتها بامتهان الناس والاستقواء عليهم ما يبعدها كل البعد عن المهمة التي يفترض أن تكون منوطة بها. لينتهي الجيش السوري إلى فرق متعددة، كالفرقة الرابعة أو فيالق من هنا وهناك، أقصى ما تقوم به هو الإشراف على عمليات التهريب وتحصل الخوات.

أما في لبنان، فإن الجيش اللبناني الذي يحظى بإجماع جميع اللبنانيين، وينظرون إليه كملاذ أخير من يلجؤون إليه لمواجهة ميليشيات سياسية، فهو يواجه باستمرار عمليات تهميشه، بحيث تمنحه هذه الميليشيات قوته على الناس والفقراء، وتفقده أي قوة معنوية فيما يتعلق بدوره الأساسي، حزب الله هو الجسم العسكري الحقيقي في لبنان، بينما دور الجيش يقتصر على ضرب التظاهرات أو إجهاض أي محاولات اعتراضية. فيخسر الحزب ووجوده ما تبقى لديه من معنويات ودوره الذي يحاول الاستعاضة عنه بالإمعان في مواجهة المدنيين.

تلك الحكاية المريرة للمجتمعات العربية، والتي لا بد من طيّها للولوج إلى حكاية جديدة تقوم على التكامل ما بين المؤسسات المدنية والمؤسسات العسكرية في سبيل إنتاج مجتمع متكافئ ومتوازن، لا يسدّ فيه نقص شريحة بالانتقام من شريحة أخرى.