icon
التغطية الحية

الجيش السوري قبل الوحدة.. انشطار المؤسسة العسكرية وبزوغ الديمقراطية

2023.07.13 | 17:24 دمشق

xcv
إسطنبول - أحمد مأمون
+A
حجم الخط
-A

في سوريا، تثير فترة 1954-1958 التي شهدت عودةً إلى الحياة السياسية التعددية والبرلمانية - أو الديمقراطية كما يصفها بعضهم - كثيراً من الأسئلة، إذا ما أخضعناها للبحث بأدوات حقل دراسات الانتقال الديمقراطي والعلاقات المدنية - العسكرية. ففي هذه السنوات لم يتصدر الجيش السوري سدة الحكم كما كان الحال بين 1949- 1954، إذ شهدت هذه السنوات خمسَ انقلابات ناجحة، ومحاولة انقلابية فاشلة، وبعد عام 1958 وقعت تسع محاولات انقلابية ناجحة / فاشلة، ما يعني أن الانقلابات أصبحت هي القاعدة في الحياة السياسية السورية وما سواها هو الاستثناء، وهذا الاستثناء تمثله فترة 1954- 1958، التي يحاول هذا المقال، والمقال المقبل، البحث عن أسبابه.

ما إن سقط نظام العقيد أديب الشيشكلي حتى قاد ضباط الانقلاب والسياسيون السوريون عمليات تطهير في مؤسسات الدولة من بقايا النظام القديم. جرت إحالة عشرات الموظفين من الوزارات والعاملين في القطاع الشُرطي إلى التقاعد، وتمّ إطلاق سراح المعتقلين السياسيين من السجون، وإعادة الضباط الذين سرحهم الشيشكلي وعلى رأسهم العقيد عدنان المالكي إلى الجيش. لكن المؤسسة العسكرية، التي هي أساس حكم النظام السابق، لم تجرِ فيها عمليات تطهير من ضباط الشيشكلي خشية الوقوع في صدام مع ضباطه الذين يتمتعون بقوة عسكرية كافية لانقلاب مضاد يستعيدون فيه نظام الحكم من جديد، فهم يتمركزون في وحدات سلاح المدرعات. واكتفوا بإحالة قائد الشرطة العسكرية عبد الحق شحادة أحد أكبر رموز النظام السابق إلى التقاعد.

تعتبر الكتلة التحريرية (التي كونها الشيشكلي) أو ضباط الدورة الواحدة قوى محايدة أيديولوجيًا، لكنها شكلت كتلة متماسكة عسكريًا لها بعض الانحيازات السياسية في وجه الأجنحة العسكرية الأيديولوجية الأخرى التي نشأت في الجيش، وهي كتلة تقوم على أخوية السلاح ورفقة الدورة الواحدة مما يشكّل الولاء لهذه الرفاقية، وهو الأساس الذي قامت عليه كتلة ضباط الشيشكلي. الرفقة في الجيش تنشأ بالمصادفة فهي ليست اختيارًا شخصيًا، بل هم الأشخاص الذين يختارهم النظام للاصطفاف إلى جانب بعضهم وفق الترتيب الألفبائي لأسمائهم أو توزعهم الجغرافي.

هي تصادفية لكنها قوية، فيها يقضي الجندي كل وقته مع رفاقه، اليقظة والنوم والطعام والتدريب والمهمات العسكرية في الحرب والسلم، أو كما يصفها صموئيل هاينز بطريقة معبرة؛ "إنهم يقضون من الوقت مع بعضهم أكثر مما يقضي معظم الأزواج الوقت مع زوجاتهم". ومن خلال هذه التجربة العسكرية، وفق عزمي بشارة، تتكون جماعة حميمية تؤسس لشعور الزمالة، وتدفع الى رفض الزعيم المطلق فيها، فهم متساوون بينهم.

يمكن القول لحدّ كبير إن كتلة ضباط الشيشكلي هي الوحدة الوحيدة الأنموذجية في تاريخ الجيش السوري والأكثر تماسكًا وتعاضدًا. ففي سوريا بين 1949-1970 استطاعت 10 مجموعات انقلابية تنفيذ انقلابات ناجحة، وباستثناء مجموعة الشيشكلي، انشطرت بقية المجموعات وانقلبت على بعضها، ولم يبقَ ضابط كبير في كل مجموعة انقلابية إلا وانقلب على زمرته العسكرية أو سعى لذلك. أما ضباط الكتلة التحريرية فلم ينشأ بينهم صراع أو انقلاب داخلي، وهو بحد ذاته أمرٌ مثير للبحث والتنقيب عن أسباب هذا الحفاظ على الولاء للكتلة العسكرية، الاستثنائي في تاريخ وحدات وتكتلات الجيش السوري.

وقد خالفت كتلة الشيشكلي التفسيرات الأكثر شيوعاً حول أسباب تكتّلها، فمن زاوية أولى، لم تكن هذه الكتلة صنيعة التنظيم المؤسسي أو تجربة القتال المشترك في الحرب، كما جرت العادة أن تنتظم المجموعات العسكرية الضيقة النطاق نتيجة ظروف خارجة عن إرادتها، فمجرّد وجود الضباط في وحدة عسكرية واحدة بالمصادفة المحضة، يخلق بينهم رابطة قويّة، ترتكز لثقافة المؤسسة العسكرية في الدولة الحديثة، ومركزية المساندة الأخوية بين العسكريين في تأمين سلامة حياتهم على جبهات القتال، "فالمؤسسة العسكرية على دراية تامة بأهمية وحدة الجماعة الصغيرة" في أرض المعركة، وهو ما لم يكن الحال في مجموعة الشيشكلي. ومن الزاوية الثانية، لم ترتكز في ولائها على الأيديولوجيا المشتركة أو الجماعة الطائفية/ الإثنية، ولم تكن صنيعة أيٍّ منهما، كما هو حال أكثر الكتل العسكرية في سوريا. وتجدر الإشارة إلى أن تشكلها ابتداءً يعود للعقيد أديب الشيشكلي، ورغم فقدان المجموعة للبعد الشخصي والزعامي -الكاريزمي- لمؤسسها بعد رحيله، فإنّها حافظت على ولائها الداخلي.

في المقابل كان ضباط الدورة الواحدة بحاجة إلى شرعية أخرى عدا شرعية القوة للوجود في المؤسسة والحضور بين السياسيين بعدما ساءت سمعة بعضهم. كانت تلك اللحظة المناسبة لهؤلاء الضباط، في انقسام الجيش على نفسه وتبلور ست كتل معظمها ذات حضور عسكري قوي في وحدات الجيش. أساس هذا التكتل يقوم على الولاءات والانتماءات الأيديولوجية العقائدية والجهوية. كما يبرز في حالة الولاءات الأيديولوجية العقائدية كـ: كتلة ضباط البعث والاشتراكيين، وكتلة الشيوعيين، وكتلة الضباط القوميين السوريين الاجتماعيين.

انضوت الكتل الست تحت لواء ثلاثة تحالفات جمعتهم رغم التباين الشاسع داخل التحالف الواحد. لكن الأبرز هما كتلتان مركزيتان: الأولى بقيادة العقيد عدنان المالكي (مدير الشعبة الأولى)، وضمت الضباط الشوام، والضباط الشيشكليين، والضباط الشيوعيين. والثانية بقيادة العميد ورئيس الأركان شوكت شقير، وجمعت بعض الضباط من الحزب القومي السوري الاجتماعي، وضباط ضد المالكي والبعث. والكتلة الثالثة هي الضباط البعثيون والاشتراكيون. وهذه الأخيرة أخذت بالتوسع والتبلور بسرعة فائقة، وباتت إحدى الكتل البارزة في الصراع العسكري والسياسي السوري، وتحديدًا بعدما جرت عمليات التخلص من كتلة وراء أخرى.

انسحاب الجيش من السياسة وإعادة الحكم للقوى المدنية افتراضٌ تحيط به الشكوك، فهذا الانسحاب جاء ضمن مراحل انقلابية، وليس ضمن عملية تطور طبيعي أو نضال إلى "الديمقراطية".

سياسيًا، "انسحب" الجيش من السياسة وأعاد الحكم للقوى المدنية، وتشكلت عدة حكومات، ودارت عدة انتخابات برلمانية وجولات رئاسية خلال هذه المرحلة الديمقراطية، ولكن الافتراض بأن جيشًا مسيسًا، ومعتادًا على حركة التغيير في الجيش والانقلاب على زمرته العسكرية في كل مرة، يمكن أن يعود إلى الثكنة من تلقاء نفسه من دون محاولات لإصلاح المؤسسة العسكرية والعلاقات المدنية - العسكرية؛ افتراضٌ تحيط به الشكوك، فهذا الانسحاب جاء ضمن مراحل انقلابية، وليس ضمن عملية تطور طبيعي أو نضال إلى "الديمقراطية".

كما أن مذكرات وروايات الضباط والسياسيين السوريين عن تلك المرحلة تبين عدد المحاولات من الكتل العسكرية للسيطرة على الجيش، وهي المرحلة التي احتاجتها تلك الأجنحة/ الكتل لتقوية نفسها وشبكة علاقتها لتتفوق أحدها على الأخرى وتتمكن من الانقضاض على السلطة، فالجيش السوري مع الانقلاب الأول دخل في مرحلة التسييس والخروج من الثكنات من دون العودة إليها.

في المقابل تعرض السياسيون للتهديد والابتزاز من الجيش مرات عدة، فهي على الصعيد السياسي كانت مرحلة قائمة ضمن الحالة الثانية للتصنيف الرباعي للعلاقات المدنية - العسكرية عند صامويل فاينر، أي يستعمل الضباط التهديد بالعقوبات أو ابتزاز المدنيين لتحقيق غاياتهم. بل وصل إلى حد غرق الضباط في السياسة وشؤون الدولة إلى أن يطلب رئيس الجمهورية إذن الضباط لسماح بدخول طبيبه الخاص إلى الأراضي السورية.

ولذا لم تكن علاقة الضباط بالمدنيين علاقة ضبابية أو علاقة مد وجزر في تلك المرحلة، بل يمكن القول إلى حد بعيد إن وجود المدنيين في الحيز السياسي بين 1954-1958 هو غطاء لصراعات الضباط الداخلية على وحدات الجيش القوية. ولا يستثنى من ذلك وجود قوى سياسية تدفع باتجاه حالة التنافر داخل القوات المسلحة، بل والانقلاب، ففي هذه المرحلة التي سادت فيها التنافسية على البرلمان، كان لحزب البعث قدرة على السيطرة على كتل قوية في البرلمان، لكنه راهن على الانقلابات العسكرية للهيمنة على السلطة وإحداث التغيير الذي تنشده، "باعتبار أن الانقلاب هو أقصر الطرق لتطبيق برنامجه. فالبرلمان كأداةٍ للتغيير ليس متجذرًا في الثقافة السياسية العربية عمومًا" بحسب محمد جمال باروت. بل إن الانقلاب هو المفهوم الذي يقوم عليه حزب البعث، فهو يصف نفسه بالأحزاب الانقلابية منذ التأسيس في لوائحه الحزبية.

في مقال الأسبوع المقبل سنسعى إلى إظهار الوقائع والأحداث وتحليل سلوك أجنحة المؤسسة العسكرية المُسيسة اتجاه بعضها واتجاه السياسيين ونظام الحكم المدني لتبيان كيف أن تلك التجربة "الديمقراطية" بزغت بفعل توازن وتصارع أجنحة الجيش في سلاح المدرعات.