الجزيرة السورية وغياب القيادة

2023.09.14 | 06:07 دمشق

الجزيرة السورية وغياب القيادة
+A
حجم الخط
-A

المواجهات الأخيرة بين أبناء العشائر العربية في شرقي سوريا و"قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، القوة المسيطرة على المنطقة بدعم من التحالف الدولي، تشير مجددا إلى واقع التشتت، وغياب القيادة والمرجعية لدى عرب الجزيرة السورية، وهو ما يشكل نقطة ضعف أساسية في سعيهم لتثقيل وزنهم، وتحصيل حقوقهم إزاء الأطراف المختلفة الساعية للسيطرة على مناطقهم.

إن منطقة الجزيرة السورية التي تشكل خزان النفط والغاز والقمح والقطن لمجمل سوريا، كانت حتى قبل عام 2011 مهملة إلى حد بعيد لدى نظام الأسدين، الأب والابن، ولا ينظر إليها إلا كمصدر للطاقة والغذاء، مع أدنى اهتمام بتوفير بنى تحتية وخدمية لأهلها، الذين اكتفى النظام باصطفاء بعض وجهائها الحقيقيين أو المصنعين أمنيا، بوصفهم ممثلين عن محافظاتها الثلاث، دير الزور والرقة والحسكة، فضلا عن ريف حلب الشرقي الذي يشكل امتدادا لهذه المناطق من ناحية البنية السكانية، وتمثيلهم في بعض هياكله غير الفاعلة مثل حزب البعث و"مجلس الشعب".

لم يتمكن عرب الجزيرة من تنظيم أنفسهم في إطارات عسكرية وسياسية وازنة، وتوزع أغلبهم على الهياكل التي شكلها الآخرون

وبعد الثورة السورية عام 2011، وخلافا للمكونات الأخرى في شرقي سوريا، لم يتمكن عرب الجزيرة من تنظيم أنفسهم في إطارات عسكرية وسياسية وازنة، وتوزع أغلبهم على الهياكل التي شكلها الآخرون، فقسم منهم حافظ على ولائه للنظام في دمشق، وقسم انخرط مع المعارضة السورية المدعومة من تركيا وآخرون انضموا لتنظيمات متشددة سائدة بما فيها "داعش"، بينما حظيت فئة قليلة بدعم أميركي مباشر في قاعدة التنف الحدودية. ومع ظهور ما يسمى بـ "قسد" استقطبت جزءا هاما منهم في هياكلها العسكرية والأمنية والإدارية المختلفة.

وبرز هذا الخلل، أي غياب القيادة الموحدة للعشائر العربية في الجزيرة السورية، بشكل جلي خلال المواجهات الأخيرة مع "قسد" بعد اعتقال قائد مجلس دير الزور العسكري أحمد الخبيل، والذي جاء اعتقاله في الحقيقة من جانب "قسد" لهذا السبب بالذات، أي محاولته أن يكون ومجلسه العسكري مركزا لثقل العشائر العربية في مواجهة قسد، برغم أنهم نظريا، جزء من "قسد" عسكريا وإداريا. والحجج التي ساقتها "قسد" بشأن أسباب الاعتقال، بأنه شخص فاسد وله ارتباطات مع النظام السوري والإيرانيين، قد يكون لها قدر من الصحة، لكنها ليس هي سبب قرار قسد بإزاحته عبر كمين غادر، بل لأنه من وجهة نظرها كبر أكثر من المسموح به، وبات يسعى للعمل لحسابه الخاص، وليس لحساب قسد، مستغلا بعض الموارد من أموال التهريب مع النظام، والأهم مستفيدا من حالة الاحتقان الشعبي ضد قيادة قسد، وخاصة ما يتعلق بسياسة التجنيد الإلزامي التي تتبعها، مع إهمال المحافظة من ناحية الخدمات والمشاريع التنموية، ومحاولة فرض مناهج تعليمية لا تنسجم مع عادات وقيم أهالي المنطقة.

وقد هب أبناء العشائر ضد قسد، ليس نصرة للخبيل الذي يعلمون من يكون، بل تعبيرا عن ضيقهم المتراكم من سياسات قسد خلال السنوات الماضية، وتطلعهم لحكم مناطقهم بأنفسهم، حيث لا مبرر لأي مكون آخر ليس له وجود أصلا في مناطقهم، ليستأثر بدعم التحالف الدولي، ويحكمهم مستفيدا من علاقته مع التحالف، والأجدر أن تكون علاقتهم مع هذا التحالف، الذي يسيطر عسكريا على المنطقة، بشكل مباشر، وليس عبر الوكيل الكردي، وهذا ما تضمنته في الواقع أغلب المطالب الصادرة عن وجهاء العشائر، بمن فيهم الشيخ الشاب إبراهيم الهفل شيخ عشيرة العكيدات الذي برز في الأحداث الأخيرة كرأس حربة في المواجهة مع قسد.

من المفهوم أن تتمكن "قسد" من احتواء هذه الانتفاضة العشائرية، بحكم أنها أقوى عسكريا، تسليحا وإدارة، وما زالت تحظى بثقة التحالف الدولي، بينما أبناء العشائر الذي اعتمدوا أسلوب الفزعات العاطفية، ليس لديهم تسليح كاف، ولا إدارة موحدة، وكان من الطبيعي أن ينكفئوا إزاء أية قوة عسكرية مسلحة جيدا ومنظمة، وتحظى بشرعية من جانب الدولة الأكبر المسيطرة على المنطقة، أي الولايات المتحدة.

رغم انعقاد بعض المؤتمرات باسم عشائر شرقي سوريا اعتبارا من العام 2012، لكن حتى الآن لم تبرز قيادة عشائرية حقيقية للجزيرة السورية، لا عبر هيئة تمثيلية ولا حزب سياسي، يمثل مصالح أهالي المنطقة

غير أن قسد تدرك ولا شك أن هذا الانتصار العسكري لا يشكل أية ضمانة لها لدوام حكم المنطقة، لأنها إذا لم تحظ بثقة المجتمع المحلي، فلن تتمكن من مواصلة السيطرة عليها، ويمكن لأبناء العشائر إذا لم يتم استرضاؤهم أن يثيروا لها المتاعب، ويجبروها على البقاء في حالة استنفار وتحفز، وبالتالي تسخير جزء كبير من مواردها لإحكام السيطرة على تلك المناطق، بينما هي مهددة وجوديا من قوى أخرى في الشمال السوري، على رأسها الدولة التركية، فضلا عن النظام السوري والإيرانيين الذين يتربصون الفرصة للانقضاض عليها، مع محاولة استمالة جزء من العشائر لصالحهم.

والحقيقة أنه رغم انعقاد بعض المؤتمرات باسم عشائر شرقي سوريا اعتبارا من العام 2012، لكن حتى الآن لم تبرز قيادة عشائرية حقيقية للجزيرة السورية، لا عبر هيئة تمثيلية ولا حزب سياسي، يمثل مصالح أهالي المنطقة، وأسهم في ذلك ولا شك هجرة كثير من الكفاءات خارج سوريا، إضافة إلى الخلافات والتنافس بين زعماء العشائر الذين تتقاذفهم الولاءات المختلفة.

وبطبيعة الحال، ليس المقصود من كلامنا هنا، إقامة أحزاب على أساس عشائري أو قومي أو ديني، بل أن يكون للمنطقة بكل مكوناتها، تمثيل حقيقي يعكس الوزن الديمغرافي لكل مكون، بعيدا عن الاختلال الحاصل اليوم، حيث تدعي قسد تمثيل كل مكونات المنطقة، بينما يهيمن عليها في الحقيقة مكون واحد، يخضع بدوره لسطوة قوة أخرى من خارج الحدود في جبال قنديل بين تركيا وسوريا والعراق.